المقاومة الإسلامية في لبنان: من الانسحاب الإسرائيلي إلى قمة الردع في معركة "أولي البأس" 2024
توجت كل تجارب المقاومة ومعارفها في عام 2024، خلال معركة "أولي البأس"، التي أظهرت للعالم قدرة المقاومة على الرد بدقة وفعالية على العدوان الإسرائيلي، باستخدام الصواريخ والطائرات المسيّرة والعمليات البرية المدروسة، بدعم من جهاز الاستخبارات "الهدهد"، الذي أظهر تفوقاً في اختراق العمق الإسرائيلي وجمع المعلومات الاستراتيجية.
تسنيم/ أمل شبيب
منذ انسحاب الجيش الإسرائيلي من جنوب لبنان في مايو/ أيار 2000، لم تنتهِ المواجهة مع العدو، بل دخلت مرحلة جديدة من الصراع الذي تحول من مواجهة مباشرة إلى صراع استراتيجي طويل الأمد، إذ بدأت المقاومة الإسلامية في لبنان- حزب الله- مرحلة جديدة من المقاومة تمثلت بالبناء الشامل لقدراتها، متجاوزة مرحلة الدفاع التقليدي، لتأسيس ردع متكامل يشمل القوة العسكرية، البرية، الصاروخية، والجوية، إلى جانب الاستخبارات والحرب النفسية.
خلال الفترة من 2000 حتى 2006، عملت المقاومة على تعزيز قدراتها، ووضعت اللبنات الأساسية للردع عبر تطوير الصواريخ، إنشاء شبكة أنفاق دفاعية، والتدريب على التكتيكات الحديثة، وهو ما أُختبر عمليًا في حرب يوليو 2006، التي أثبتت فاعلية استراتيجيات الردع العسكري والنفسي ضد الاحتلال.
مع اندلاع الحرب في سوريا بعد 2011، واجه لبنان تحدياً جديداً في شكل التنظيمات الإرهابية مثل "داعش" و"جبهة النصرة"، مما مكّن حزب الله من توسيع خبراته العملياتية، ومنع وصول الإرهاب إلى الأراضي اللبنانية، وتعزيز الردع الداخلي. هذه التجربة الحربية والإستراتيجية شكّلت قاعدة قوية للمقاومة، وساهمت في صقل مهاراتها في التخطيط التكتيكي وجمع المعلومات الاستخباراتية، وتحويل لبنان إلى دولة عصية على أي تهديد إرهابي أو عدوان خارجي.
توجت كل هذه التجارب والمعارف في عام 2024، خلال معركة "أولي البأس"، التي أظهرت للعالم قدرة المقاومة على الرد بدقة وفعالية على العدوان الإسرائيلي، باستخدام الصواريخ والطائرات المسيّرة والعمليات البرية المدروسة، بدعم من جهاز الاستخبارات "الهدهد"، الذي أظهر تفوقاً في اختراق العمق الإسرائيلي وجمع المعلومات الاستراتيجية.
الانسحاب لم ينهِ المواجهة
في أعقاب انسحاب الجيش الإسرائيلي من جنوب لبنان، بدأت المقاومة الإسلامية رحلة متعمقة لبناء قدراتها العسكرية بشكل متكامل ومتطور، مع إدراكها أن مواجهة أي تهديد مستقبلي تتطلب قوة حقيقية وفعالة على كل المستويات. كان تطوير الصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى من أولوياتها، بحيث تستطيع توجيه ضربات دقيقة إلى العمق الإسرائيلي، لتشكل أداة ردع قوية تمنع أي اعتداء أو تصعيد محتمل. هذه الصواريخ لم تكن مجرد أسلحة، بل كانت قوة وقدرة المقاومة على الرد في أي لحظة وعلى أي هدف تحدده الاستراتيجية العسكرية.
فبعد الإنسحاب لم تشهد الحدود استقرارًا كاملًا، بل كانت المقاومة في حالة يقظة دائمة واستعداد مستمر، فقد تحوّلت المواجهة إلى صراع غير تقليدي قائم على المراقبة المستمرة، العمليات المحدودة، والردع النفسي. كل عملية صغيرة أو استهداف دقيق كانت تحمل رسالة واضحة للعدو: لبنان والمقاومة يقظان، وأي خطوة عدائية ستواجه رداً مدروساً وقوياً.
حتى العام 2006، وخلال السنوات الست، ركّزت المقاومة على تعزيز قدراتها العسكرية بشكل لم يسبق له مثيل. كانت الصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى العمود الفقري لردعها، حيث وفرت القدرة على ضرب العمق الإسرائيلي بدقة، مما جعل أي عدوان محتمل مكلفاً ومعرضاً للفشل. ولم تقتصر الاستعدادات على الصواريخ فقط، بل شملت أيضاً القدرات البرية والأنفاق الدفاعية، التي وفرت للمقاتلين القدرة على التحرك والتخفي، وإحداث المفاجآت التكتيكية في أي مواجهة.
إضافة إلى ذلك، بدأت المقاومة استخدام الطائرات المسيّرة الأولى كأداة استخباراتية استراتيجية، لجمع المعلومات عن تحركات الجيش الإسرائيلي ومواقع المستوطنات، وتحليلها لتوجيه العمليات العسكرية بدقة عالية. هذا التطور أتاح للمقاومة دمج القوة الميدانية مع التخطيط الاستراتيجي والاستخبارات المتقدمة، ما رفع مستوى اليقظة وأعاد تشكيل مفهوم الردع في لبنان.
كل هذه الجهود لم تكن عشوائية، بل كانت بناء تدريجياً لردع شامل، يضمن للمقاومة القدرة على مواجهة أي عدوان في المستقبل. وكانت النتائج العملية لهذه التحضيرات واضحة عندما شن العدو الإسرائيلي حربه على لبنان خلال شهر تموز/ يوليو 2006، حيث ظهرت كل هذه القدرات مجتمعة: الصواريخ التي بلغت العمق الإسرائيلي، الأنفاق والمواقع الدفاعية التي أوقفت تقدم القوات البرية، والاستخبارات الدقيقة التي أمدت القيادات بالمعلومات اللازمة لتوجيه العمليات بكفاءة.
بهذه الطريقة، تحوّل الانسحاب الإسرائيلي من حدث يبدو أنه نهاية للمعركة إلى فرصة ذهبية للمقاومة لإعادة تنظيم صفوفها، تعزيز قدراتها، وخلق استراتيجية ردع متكاملة أثبتت فعاليتها لاحقًا على الأرض.
"2006"المعركة الكبرى: اختبار الردع والانتصار
صيف 2006، الضيف الأكثر حرارة في تموز يوليو وما رافقه من تطورات غيرت وجه المنطقة ككل، بعدما كانت المقاومة الإسلامية في لبنان قد بنت خلال السنوات السابقة قدرة ردع متكاملة، ومع تصاعد التوتر على الحدود، وشنّ العدو الإسرائيلي حربه، فقد شكلت الحرب اختباراً حقيقياً لهذه القدرات، ومفصلاً تاريخياً في مسار المقاومة.
لم تكن الحرب مجرد مواجهة عسكرية تقليدية، بل مواجهة شاملة للقدرة على الردع العسكري والنفسي. فقد واجه العدو الإسرائيلي جيشاً مدرباً ومجهزاً بتقنيات متقدمة، لكنه لم يكن مستعداً للتكتيكات غير التقليدية التي استخدمتها المقاومة.
الصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى لعبت دوراً مركزياً، إذ ضربت أهدافًا استراتيجية في العمق الإسرائيلي، شملت مستوطنات وقواعد عسكرية، وأدت إلى إلحاق خسائر كبيرة بالعدو وتعطيل حساباته العملياتية. هذه الضربات أكدت قدرة المقاومة على الرد بسرعة ودقة، مما جعل أي عدوان مستقبلي مكلفاً للغاية.
على الصعيد البري، أثبتت القدرات البرية والأنفاق الدفاعية فعاليتها من خلال كمائن متقنة وصد محاولات التوغل الإسرائيلي، ما أبطأ تقدم العدو وأجبره على إعادة حساب استراتيجيته. فمجاهدو المقاومة البواسل لم يكونوا يحمون الأراضي فحسب، بل كانوا يخلقون بيئة تجعل العدو يدفع ثمناً كبيراً مقابل أي خطوة على الأرض.
الجانب الاستخباراتي كان محوراً آخر في تحقيق الانتصار. فقد وفرت المعلومات الدقيقة عن تحركات القوات الإسرائيلية القدرة على توجيه العمليات بشكل مثالي، وتقليل الخسائر، وزيادة الضغط النفسي على العدو. بالإضافة إلى ذلك، لعبت الحرب النفسية والإعلامية دورها في تعزيز معنويات الشعب اللبناني والمقاتلين، بينما أضعفت من روح العدو المعنوية، ما زاد من قيمة الانتصار وأهمية الردع المكتسب.
إن انتصار المقاومة في هذه الحرب لم يكن مجرد صد العدوان أو الحفاظ على الأراضي، بل كان إثباتاً عملياً لقدرة الردع الشامل التي بنيت منذ عام 2000. فقد أظهرت الحرب أن الانتصار ليس فقط في الانسحاب الإسرائيلي، بل في القدرة على مواجهة القوة العسكرية الكبيرة للعدو، وتوجيه الضربات بدقة وفعالية، وفرض إرادة المقاومة على ساحة المعركة.
بهذا الشكل، أصبحت حرب تموز/ يوليو 2006 نقطة تحول تاريخية، أثبت مرة أخرى أن لبنان عبر مقاومته قادر على حماية سيادته، وأن الردع العسكري والنفسي يمكن أن يحوّل أي عدوان محتمل إلى خسارة استراتيجية للعدو، بينما يرفع معنويات الأمة ويدعم مشروع المقاومة في الدفاع عن الوطن.
من الانتصار إلى التفوق: تعزيز القوة بعد العام 2006
بعد أن أثبتت المقاومة الإسلامية في لبنان جدارتها وقدرتها على الردع خلال حرب يوليو 2006، بدأت مرحلة جديدة من تعزيز القوة وتطوير القدرات بشكل أكثر شمولية واستراتيجية، فقد أصبح واضحاً أن مواجهة أي تهديد مستقبلي تتطلب دقة أكبر في الصواريخ، تدريباً مكثفاً للمجاهدين، وتكاملًا بين القوة الميدانية والتقنيات الحديثة.
في هذا الإطار، ركّزت المقاومة على تطوير الصواريخ لتصبح أكثر دقة وقدرة على الوصول إلى أهداف استراتيجية بعيدة داخل العمق الإسرائيلي، ما جعل أي عدوان محتمل محفوفاً بالمخاطر وخاضعاً لحسابات دقيقة. هذه الصواريخ لم تكن مجرد وسيلة هجومية، بل أصبحت أداة ردع متقدمة تفرض على العدو إعادة التفكير في أي تحرك أو قرار عدائي.
إلى جانب الصواريخ، أولت المقاومة اهتماماً كبيراً بتطوير التدريب التكتيكي والقدرات البرية للمقاتلين، حيث خضع المقاتلون لتدريبات مكثفة في فنون الحرب غير التقليدية، الكمائن، وحرب المدن، بما يعزز من فعالية العمليات البرية ويضمن قدرة عالية على مواجهة أي تقدم للعدو، وقد ساهم هذا التدريب في رفع جاهزية المقاتلين، وتعزيز الانضباط التكتيكي، وتمكينهم من تنفيذ عمليات دقيقة وفعّالة على الأرض.
كما شملت هذه المرحلة تطوير الطائرات المسيّرة، التي أصبحت أداة استراتيجية للمراقبة وجمع المعلومات الدقيقة عن تحركات العدو ومواقعه، مما أتاح للمقاومة التخطيط للعمليات بدقة غير مسبوقة وتقليل المفاجآت غير المرغوبة على أرض المعركة.
على صعيد آخر، لم يكن العمل العسكري وحده كافياً، فالمقاومة أولت أهمية كبيرة لتعزيز الردع النفسي والسياسي للعدو الإسرائيلي عبر الإعلام، وإظهار قوة المقاومة وكفاءة مقاتليها، ما أسهم في رفع معنويات الشعب اللبناني والمقاتلين، وخلق حالة من التوجس والقلق لدى العدو، مؤكدًا أن أي عدوان سيكون مكلفاً ومعقداً على كافة الأصعدة.
بهذه الخطوات، لم تكتفِ المقاومة ببناء القوة العسكرية فحسب، بل أسست لمنظومة ردع شاملة ومتطورة، قادرة على دمج القوة الميدانية مع التخطيط الاستراتيجي والتقنيات الحديثة، ما وضع لبنان في موقع قوة في مواجهة أي تحدٍ مستقبلي، وجعل من المقاومة قوة يُحسب لها حساب داخل الساحة الإقليمية.
2011-2020رحلة المعركة النوعية: الحرب السورية وتجربة مواجهة داعش
مع اندلاع الحرب السورية عام 2011، واجهت المقاومة الإسلامية في لبنان مرحلة جديدة من التحديات، حيث ظهرت تهديدات إرهابية لم يسبق لها مثيل في المنطقة، تمثلت بتنظيمات مثل داعش وجبهة النصرة، التي شكلت خطراً مباشراً على لبنان وعلى استقرار المنطقة. لم تقتصر مهمة المقاومة على حماية الأراضي اللبنانية فقط، بل شملت تقديم خبرتها القتالية والاستخباراتية لحماية الجغرافيا الإقليمية من الإرهاب والعدوان.
كانت هذه الحرب محطة تحول نوعية، إذ انتقلت المقاومة من مرحلة الدفاع عن لبنان إلى تجربة قتالية واسعة في بيئات حضرية وريفية معقدة، اكتسبت خلالها مهارات فريدة في التخطيط العملياتي، حرب المدن، مواجهة الإرهاب، والتنسيق مع القوات السورية وحلفاء إقليميين. هذه التجربة لم تُحسّن فقط من القدرات العسكرية، بل عززت بشكل كبير من القدرات الاستخباراتية للمقاومة، ما مكنها من جمع معلومات دقيقة وتوجيه الضربات بشكل مدروس ضد الجماعات الإرهابية قبل وصولها إلى الأراضي اللبنانية.
في هذه الفترة، أصبح لبنان عصياً على أي محاولة توغل إرهابي، حيث نجحت المقاومة في إحباط محاولات تنفيذ التفجيرات داخل المدن والمناطق اللبنانية، وتعطيل شبكات الدعم اللوجستي والإمداد للتنظيمات الإرهابية. هذه النجاحات أظهرت قدرة المقاومة على العمل على أكثر من جبهة في الوقت نفسه، وحوّلت تجربتها في سوريا إلى نموذج متقدم للردع، لا يقتصر على الدفاع عن الأرض فقط، بل يشمل القدرة على منع الأعداء من تنفيذ أي مشروع عدائي أو إرهابي ضد لبنان.
إلى جانب العمليات العسكرية، لعبت الخبرة الاستخباراتية دوراً محورياً في هذا الصراع، حيث أمدت القيادة بالمعلومات الضرورية لتخطيط العمليات بدقة عالية، وتقليل الخسائر، وضمان التفوق الاستراتيجي على الأرض. كما عززت هذه المرحلة من الردع النفسي والسياسي للعدو الإقليمي والإرهابي على حد سواء، مؤكدة أن المقاومة قادرة على حماية سيادتها وأمنها الوطني بكل أبعادها.
باختصار، الفترة من 2011 حتى 2020 لم تكن مجرد حرب جانبية في سوريا، بل كانت مدرسة حقيقية للمقاومة، ومسرحاً لتطوير الردع الشامل، الذي جمع بين القوة العسكرية، الخبرة التكتيكية، التخطيط الاستراتيجي، والقدرات الاستخباراتية، مؤسساً لمرحلة جديدة من القوة الميدانية والاستراتيجية التي توّجت لاحقًا في معركة "أولي البأس" 2024.
2021-2024التحصين الاستراتيجي وإطلاق قوة الردع في "أولي البأس"
مع اقتراب العقد الثالث بعد الانسحاب الإسرائيلي، دخلت المقاومة الإسلامية في لبنان مرحلة بناء الردع المتكامل، مرحلة تهدف إلى دمج كل الخبرات المكتسبة منذ عام 2000 في منظومة واحدة قادرة على حماية لبنان وإحباط أي عدوان محتمل. كان تطوير شبكة الاستخبارات وطائرة "الهدهد" المسيرّة حجر الأساس لهذه المرحلة، إذ أصبحت المسيّرة قادرة على جمع معلومات دقيقة عن تحركات العدو الإسرائيلي داخل العمق، وتحليلها بشكل استراتيجي لتوجيه العمليات بكفاءة عالية.
في الوقت نفسه، تم تعزيز القدرات الصاروخية للطائرات المسيّرة، لتصبح أدوات فعّالة لضرب العمق الإسرائيلي بدقة متناهية، بما يضمن أن أي محاولة عدوانية ستواجه رداً مباشراً ومؤثراً، ويجعل من أي هجوم مكلفاً ومعقداً على جميع المستويات. لم تقتصر التحضيرات على الجانب التقني فحسب، بل شملت تدريبات مكثفة للمجاهدين على العمليات البرية والجوية المتقدمة، حيث نفّذت المقاومة مناورات عديدة تحاكي سيناريوهات معقدة تشمل المعارك البرية، الكمائن، استخدام الطائرات المسيّرة، وتنسيق الضربات في الوقت المناسب لضمان أعلى درجات الفعالية.
مع تصاعد التوتر على الحدود، وتصاعد التصعيد الإسرائيلي بعد معركة طوفان الأقصى، وفي يونيو 2024، كانت المقاومة قد وضعت نفسها في موقع جاهزية كاملة، واستعدت للانطلاق في أي لحظة للحفاظ على سيادة لبنان. وقد أدى هذا التحضير الدقيق والممنهج إلى إطلاق معركة "أولي البأس" في سبتمبر 2024، التي أصبحت بمثابة تتويج لكل سنوات البناء والتخطيط، وتجسيداً لمرحلة الردع الشامل التي تمتد من الجنوب اللبناني إلى العمق الإسرائيلي.
في هذه المرحلة، لم تعد المقاومة قوة دفاعية فقط، بل أصبحت قوة استراتيجية متكاملة، تجمع بين الخبرة الميدانية، القدرات الاستخباراتية، القوة الصاروخية، والقدرة على تنفيذ عمليات جوية وبرية متزامنة، ما جعلها قادرة على مواجهة أي عدوان بحزم وكفاءة عالية، وضمان أن أي اعتداء على لبنان سيواجه ردًا حاسماً ومدروساً على كافة الأصعدة.
"الهدهد": عين المقاومة الساهرة على العمق الإسرائيلي
في صلب منظومة الردع المتكامل للمقاومة الإسلامية في لبنان، برزت مسيّرة "الهدهد" كأحد أعمدة القوة الاستراتيجية، إذ يمثل العين الاستخباراتية الدقيقة التي تمكن المقاومة من مراقبة تحركات العدو الإسرائيلي داخل العمق، وتحليل كل المعلومات لتوجيه العمليات بدقة عالية. سُمّيت بـ "الهدهد" تيمناً بالرمزية القرآنية للحكمة واليقظة، فالطائر الذي عرف بذكائه وحرصه على البحث والمراقبة أصبح رمزاً لقدرة المقاومة على الجمع بين الملاحظة الدقيقة والتخطيط الاستراتيجي.
جمع الهدهد المعلومات عبر شبكات متطورة من المراقبة والاتصالات والاستخبارات الميدانية، واستخدم تقنيات حديثة تشمل الطائرات المسيّرة، أجهزة الرصد الإلكترونية، والتحليل الاستخباراتي المتقدم، فمكّنت هذه المعلومات القيادات في المقاومة من اتخاذ قرارات سريعة ومدروسة، وتحديد الأهداف بدقة، وتوجيه العمليات العسكرية بطريقة تقلل من المخاطر وتزيد من تأثير الضربات.
لم يقتصر دور "الهدهد" على الرصد والتخطيط، بل كان عنصراً فعالاً في العمليات الكبرى، كما ظهر بوضوح في معركة "أولي البأس" 2024، حيث ساهم في اختراق العمق الإسرائيلي، تصوير المواقع الاستراتيجية، وتقديم بيانات دقيقة حول تحركات الجيش والمستوطنات، ما ساعد المقاومة على تنفيذ ضربات صاروخية وجوية وبرية متزامنة بنجاح كبير.
باختصار، أصبحت "الهدهد" أكثر من مجرد مسيرة استخباراتية؛ إنه رمز اليقظة والذكاء الاستراتيجي للمقاومة، العين التي ترى ما لا يراه العدو، واليد التي توجه القوة بدقة، لتشكل عنصراً رئيسيًا في القدرة على الردع الشامل وحماية سيادة لبنان.
منشأة "عماد ": القلب الصاروخي للمقاومة
بعد الهدهد كشف حزب الله الستار عن منشأة "عماد " بأقسامها المختلفة للصواريخ، وأظهر حزب الله أحد أبرز الابتكارات الاستراتيجية للمقاومة الإسلامية في لبنان، حيث تمثل القلب النابض للقدرات الصاروخية الدقيقة. صُممت هذه المنشأة لتخزين وإطلاق الصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى، بما يضمن قدرة المقاومة على استهداف العمق الإسرائيلي بدقة متناهية، وتحويل أي عدوان محتمل إلى تجربة مكلفة وخطرة على العدو.
تمتاز منشأة "عماد" ببنيتها المحصنة ومواقعها السرية، التي تجعلها مستحيلة للإستهداف الجوي أو البري، كما أظهرت المشاهد التي بثّها حزب الله تأمين المنشأة مسارات آمنة لتوزيع الصواريخ، تجهيزها للإطلاق، وتنسيق عمليات متعددة في الوقت ذاته، مما عكس مستوى عالٍ من التخطيط التكتيكي والدقة العملياتية.
بالإضافة إلى الجانب العسكري، لعبت المنشأة دوراً استراتيجياً ونفسياً وسياسياً وأرسلت رسالة واضحة للعدو بأن المقاومة تمتلك القدرة على الرد الفوري والدقيق، وأن أي عدوان على لبنان سيواجه ضربات موجعة وموجعة في العمق الإسرائيلي، كما أكدت المنشأة على قدرة المقاومة على دمج القوة الصاروخية مع الطائرات المسيّرة والقدرات البرية.
باختصار، مثّلت منشأة "عماد" رمزاً للتفوق الصاروخي والتخطيط الاستراتيجي للمقاومة، وهي جزء أساسي من منظومة الردع الشامل، التي ضمنت حماية لبنان وسيادته، وعززت القدرة على مواجهة أي تهديد أو عدوان.
أما عن كشف حزب الله عن هذه المنشآت في وقت حساس، أعتبر رسالة ردع قوية للكيان الإسرائيلي، فالصور والفيديوهات لهذه المنشآت تحت الأرض، والمزودة بأنظمة كهربائية ومعدات اتصال، أظهرت قدرة الحزب على تنفيذ عمليات معقدة من داخل هذه المنشآت، كما عكس هذا التطور تحولاً نوعياً في استراتيجية الحزب.
معركة "أولي البأس" 2024: تتويج عقود من البناء الاستراتيجي
مع بداية تصعيد العدوان الإسرائيلي على لبنان في حزيران/ يونيو 2024، كانت المقاومة الإسلامية جاهزة تماماً لمواجهة أي عدوان، بعد سنوات طويلة من البناء العسكري، التدريبات المكثفة، تطوير الصواريخ والطائرات المسيّرة، لا سيما "الهدهد" الاستخباراتية، ومع حلول شهر أيلول/ سبتمبر 2024، انطلقت معركة "أولي البأس"، لتكون لحظة حاسمة في تاريخ المقاومة، وتجسيداً لقدرتها على الردع الشامل.
بدأت المعركة بضربات صاروخية دقيقة استهدفت 456 مستوطنة و361 نقطة عسكرية و164 قاعدة و127 موقعاً حدودياً، ما أحدث صدمة كبيرة في حسابات الجيش الإسرائيلي وأجبره على إعادة تقييم قدراته واستراتيجيته.
في الوقت نفسه، لعبت العمليات الجوية باستخدام الطائرات المسيّرة دوراً محورياً في ضرب المواقع الاستراتيجية داخل العمق الإسرائيلي، ما أتاح للمقاومة تنفيذ عمليات متزامنة مع الصواريخ والقدرات البرية، وبشكل منسق يقلل من خسائرها ويزيد من تأثير الضربات على العدو.
على الأرض، تمكن المقاتلون من صد أي محاولة توغل بري في مناطق حساسة مثل وطى الخيام والعمرا، مستفيدين من الأنفاق والمواقع الدفاعية المحصنة التي تم تطويرها خلال السنوات السابقة. هذه العمليات أكدت فعالية القدرات البرية والتكتيكات غير التقليدية التي كانت جزءًا من استراتيجية الردع منذ عام 2000.
أما عن النتائج الملموسة على كل المستويات فكانت كالتالي:
• خسائر بشرية كبيرة للعدو، تجاوزت 100 قتيل وأكثر من 1000 جريح (بإعتراف العدو، ومن المؤكد ان عدد القتلى والجرحى أكثر بكثير)
• تهجير جماعي للمستوطنين من شمال فلسطين المحتلة، ما أحدث حالة من الفوضى والارتباك في صفوف العدو.
• تعطيل أي محاولة للتقدم والسيطرة على الأراضي اللبنانية، مؤكدة سيادة لبنان وقدرة المقاومة على فرض إرادتها.
إن معركة "أولي البأس" لم تكن مجرد مواجهة عسكرية، بل تتويج لعقود من التخطيط والتطوير الاستراتيجي، وأظهرت للعالم قدرة المقاومة على الجمع بين القوة الميدانية، الصواريخ، الطائرات المسيّرة، والتخطيط الاستخباراتي، في إطار استراتيجية متكاملة للردع الشامل. لقد كانت رسالة واضحة لكل من يظن أن لبنان يمكن أن يكون هدفًا سهلاً: المقاومة جاهزة، الردع قائم، وسيادة الوطن لا تُهزم.
ختام:
لقد أثبتت مسيرة المقاومة منذ عام 2000 وحتى 2024 ، أن الانتصار لا يُقاس بالانسحاب العسكري للعدو فقط، بل بالقدرة على بناء ردع متكامل، حماية السيادة الوطنية، وفرض إرادة المقاومة على ساحة المعركة.
من الدفاع التقليدي إلى الحرب غير التقليدية، مروراً بالخبرة العملياتية في سوريا، وصولاً إلى انتصار "أولي البأس"، يظهر واضحاً أن المقاومة في لبنان، رغم كل ما تعرضت له من ضغوط وما زالت بل وزادت هذه الضغوط عليها، هي قوة استراتيجية متكاملة، لا يُستهان بها، وعصية على أي عدوان أو تهديد.
في النهاية، شكّلت هذه المسيرة التي عاشتها وعايشتها المقاومة منذ تأسيسها حتى اليوم نموذجاً فريداً في الصمود، التخطيط الاستراتيجي، وتطوير الردع الشامل، مؤكدة أن لبنان عبر مقاومته قادر على حماية سيادته، وحفظ أمن شعبه، ومواجهة أي عدوان مهما كانت قوته أو تحدياته.
إنتهى/