مرحلة ما بعد التطبيع
لقد أغدقت الأنظمة العربية المال على الثورة الفلسطينية، لا لدعمها وتعزيز قوتها وقدرتها في ميدان المنازلة مع العدو، وإنّما لإفساد هذه الثورة، وحرفها واحتوائها، ومن ثم الهيمنة على قرارها وتوجيهها إلى حيث نرى اليوم من سقوط في الشرك الإسرائيلي المتمثّل بالاعتراف بإسرائيل.
خاص تسنيم / د. محـــمد البحيصي
رئيس جمعية الصداقة الفلسطينية - الإيرانية
بداية أرى أنّه من المهم تسجيل اعتراضي على مصطلح "التطبيع" وأرى أنّه مصطلح ملغوم مفخّخ يُراد به تعويم سلوك أنظمة العار والخيانة المتهافتة على نار الكيان الصهيوني تهافت الفراش، هذا السلوك الذي انكشف عن مستوىً من العلاقات ترقى إلى "التحالف الشيطاني" بين هذه الأنظمة والكيان الصهيوني في سياق الخطة التي حاكتها دوائر الشر في الولايات المتحدة وإسرائيل مستهدفة هذه المنطقة، من خلال الاصحار في عداوتها لقوى المقاومة والممانعة التي ترفض الوجود الصهيوني في فلسطين..
إنّ العلاقات التي أُعلن عنها بين الكيان الصهيوني والإمارات يُراد منها أن تكون النموذج لكل العلاقات بين الكيان والأنظمة المستسلمة، هذه العلاقات التي وفي أقل من شهرين على الإعلان عنها بلغت حد توقيع عقود وشراكات واستثمارات وإلغاء تأشيرة الدخول، وإطلاق يد الموساد الإسرائيلي للعمل بقوة وبفضاء مفتوح ممّا يعني أن العلاقات كانت أقدم بكثير من تاريخ الإعلان عنها، حيث عملت الإمارات ما لم تعمله مصر على سبيل المثال في أربعين سنة ..
ومن هنا فإنّ مصطلح "التطبيع" لا ينطبق على ما يجري اليوم من ظاهرة الهرولة تجاه العدو الصهيوني، فإنّ ما يجري اليوم من انهيار لما يظنّه البعض أنّه جدار عربي كان يستند إليه الفلسطيني ما هو إلّا حالة انكشاف للحقيقة التي كانت تختبئ وراء هذا الجدار الموهوم، وهي أن هذه الأنظمة ومنذ كانت فكرة إلى حين إنشائها وطوال وجودها عملت على التآمر على كل ظاهرة إيجابية تتعلّق بوحدة وتحرّر واستقلال ونهضة الأمّة، وما موقفها اليوم من الحق الفلسطيني سوى أحد تجليّات هذا الدّور وهذه الوظيفة..
وقد يقول قائل: إنّ هذه الأنظمة دعمت الثورة الفلسطينية بالمال، ولا يزال بعضها يفعل..
وأقول: نعم، لقد أغدقت هذه الأنظمة المال على الثورة، لا لدعمها وتعزيز قوتها وقدرتها في ميدان المنازلة مع العدو، وإنّما لإفساد هذه الثورة، وحرفها، واحتوائها، ومن ثم الهيمنة على قرارها وتوجيهها إلى حيث نرى اليوم من سقوط في الفخ والشرك الإسرائيلي المتمثّل بالاعتراف بإسرائيل، وتوقيع اتفاق أوسلو بكل كارثيته على القضية الفلسطينية..
واكتشف الناس متأخرين طبيعة هذا الدّور الخياني التآمري، حيث تناوبت دول الخليج وعلى رأسها "السعودية" لإيصاله إلى ما نشاهده اليوم، وكل ذلك في لعبة توزيع الأدوار بين هذه الأدوات التي تحركها غايات وأهداف المشروع الأمريكي الصهيوني، الذي يستهدف المنطقة من خلال استهدافه فلسطين أولاً باعتبارها قاعدة انطلاق المشروع..
لقد لعبت هذه الأنظمة دوراً مركزياً في دفع الفلسطيني إلى زواريب العناوين الفرعيّة التي قسّمت الشعب الفلسطيني، وشوّهت تاريخه الجهادي، وضربت مشروعه الوطني، ومكّنت العدو من إحكام قبضته على المزيد من الأرض، توطئة للوصول إلى "يهودية الدولة" والأخطر من ذلك كلّه هو أنّ الموقف الفلسطيني (الرسمي) للقيادة المتنفّذة صار بمثابة الغطاء الذي استغلّه هؤلاء الخونة لشرعنة خياناتهم وارتمائهم في الحضن الإسرائيلي، وبات الجسر الذي استخدموه للعبور إلى العدو، متخذين من الموقف الرسمي الفلسطيني حصان طروادة لخيانتهم..
إنّ ما يجري اليوم يتجاوز حدود التطبيع ليصل إلى تحالفات يُراد لها رسم خارطة جديدة لغرب آسيا تستهدف قوى المقاومة ومحورها الشريف وفي المقدمة الجمهورية الإسلامية قلب هذا المحور..
وهذا يعني أنّ حقبة جديدة من المواجهة ستُفرض على أبناء الأمّة وأحرارها، وأنّ معادلات جديدة ستدخل على خط هذه المواجهة الحتميّة، ممّا يستدعي الوعي والجديّة وامتلاك الرؤية والبصيرة والقوة بكل مفرداتها وعناصرها، ودفع ذلك كلّه في هذه المواجهة المصيرية التي لا نشك أبداً أنّها ستكون لصالح الأمّة وحقّها في الحرية والاستقلال والنهوض..
إنّه وفي الوقت الذي يئست فيه "إسرائيل" من الحسم والانتصار العسكري في معركتها المفتوحة مع قوى المقاومة، يأتي خونة العرب ليمنحوها انتصاراً سياسياً علّه يمنح جبهتها الداخلية بعض الثقة والتوازن أمام أزمة الكيان الوجودية المتفاقمة بفعل وإرادة المقاومة.. وهذا هو بعض ما تريده إسرائيل من وراء إعلانها وكشفها المتدرّج عن علاقاتها مع هؤلاء الخونة، والأيام القادمة ستكشف أكثر عن طبيعة ووظيفة هذه العلاقات التي تجمع أعضاءها في الحلف الجديد، والخارطة الجديدة التي يراد منها إلغاء هويّة المنطقة، واغتصاب تاريخها وذاكرتها بعد اغتصاب ثرواتها وجغرافيتها..{ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}.
/انتهى/