حرب جديدة بين الصين وامريكا تدور رحاها
الصراع خفي بين الصين والولايات المتحدة هو جارٍ؛ و هذه المعركة ستحدد توازن القوى العالمي وستشكل مصير العالم المستقبلي.
وكالة انباء تسنيم :
الساعة الخامسة صباحًا، ويضاء ضوء في قاعة مؤتمرات صغيرة بوزارة التجارة في واشنطن. على الطاولة، مكدسة تقارير تقنية، ومخططات إنتاج أشباه الموصلات، وملاحظات تحمل ختم "عاجل".
في إحدى هذه الأوراق، توجد صورة بسيطة لكنها تنذر بالخطر: خريطة عالمية لإنتاج الرقائق، تظهر نقاطًا حمراء لمراكز الإنتاج المكثف على تايوان، وكوريا الجنوبية، والصين.
بالنسبة لصانعي القرار الأمريكيين، تعادل تلك الخريطة معضلة كبرى: كيف يمكنهم إدارة الهيمنة الصناعية والأمنية التي تقع الآن خارج حدودهم؟ تجلى رد فعل حكومة الولايات المتحدة على جبهتين استراتيجيتين: جذب الاستثمارات لبناء مصانع متطورة محليًا (من خلال قانون الرقائق)، وسد وصول المنافس الاستراتيجي إلى التكنولوجيات المتقدمة (بفرض قيود تصدير).
هذه "الحرب الخفية" حول شيء يبدو تقنيًا ظاهريًا، أي الرقائق، هي في الواقع منافسة جيوسياسية واقتصادية شاملة. لقد أصبحت الرقائق، وخاصة معالجات الذكاء الاصطناعي المتخصصة ومعدات التصنيع المتقدمة (مثل أدوات الطباعة الضوئية)، "محركات القوة الوطنية"؛ فالدولة التي تستطيع بناء معالجات أسرع ومراكز إنتاج أكثر، لديها فرصة أعلى في مجالات التكنولوجيا العسكرية، والمعلوماتية، والاقتصادية.
من وجهة نظر بكين، الأمر واضح أيضًا: تحقيق الاكتفاء الذاتي في أشباه الموصلات يُعد ركيزة أساسية في البرنامج الصناعي والأمني للبلاد. في هذا التصادم، يمكن لأي تحرك سياسي أو تجاري أن يُفعل سلسلة من ردود الفعل.
استراتيجيتا واشنطن: الدعم الداخلي والاحتواء الخارجي
كان التحرك الرسمي الأول لواشنطن في صورة سياسة علنية، هو إقرار قانون الرقائق والعلوم في عام 2022؛ وهو حزمة دعم بقيمة مليارات الدولارات لبناء مصانع متطورة داخل الولايات المتحدة وتعزيز سلسلة توريد أشباه الموصلات.
وصف جو بايدن الخطة بـ "الاستثمار من أجل الأمن والابتكار"، مؤكدًا أن هذا القانون يجب أن يعيد بناء موقع الولايات المتحدة في المنافسة التكنولوجية العالمية. عمليًا، وفر قانون الرقائق الأموال والدعم والحوافز للشركات الكبرى لإعادة الإنتاج إلى الأراضي الأمريكية.
على الجانب الآخر من الساحة، استخدمت واشنطن أداتها الثانية للقوة: قيود التصدير. في أكتوبر 2022 ومرة أخرى في فترات لاحقة، فرضت وزارة التجارة الأمريكية قيودًا تحظر أو تحدّ من تصدير بعض الرقائق المتقدمة، وبرامج التصميم، ومعدات الإنتاج الحساسة إلى الصين. الهدف كان واضحًا: منع وصول الشركات الصينية إلى الأدوات التي يمكنها تسريع القدرات الحاسوبية المتقدمة وإنتاج الرقائق من الجيل المتقدم.
لكن سرعان ما اتضح أن تنفيذ هذه السياسة يواجه تعقيدات كبيرة؛ إما انضمت الشركات الأجنبية إلى السياسة الأمريكية أو وقعت تحت الضغط، وعمليًا أصبحت سلسلة التوريد الدولية مضطربة أولاً ثم مجزأة.
الفاعلون الصناعيون والتعقيدات التقنية
أسماء الفاعلين الصناعيين في هذا التنافس مهمة جدًا: شركة TSMC التايوانية الرائدة في تصنيع عقد الرقائق الأكثر تقدمًا، وشركة ASML الهولندية المُصنِّعة الوحيدة لأدوات الطباعة الضوئية بالأشعة فوق البنفسجية القصوى (دور محوري في إنتاج رقائق أقل من 7 نانومتر)، وشركة SMIC الصينية التي نمت في إنتاج "العقد الأقدم" (مثل 28 نانومتر فما فوق).
بالنسبة للولايات المتحدة وحلفائها، يعني تقييد الصادرات إلى الصين السيطرة على وصول SMIC إلى معدات معينة والضغط على شبكات التوريد الصينية؛ أما بالنسبة لبكين، فكان الرد هو بناء القدرات المحلية وزيادة الاستثمار في معدات التصنيع وتطوير التصميم.
هذا الصدام الصناعي-السياسي معقد أيضًا في طبقات تقنية عميقة: وقعت ASML تحت ضغط من الحكومتين الهولندية والأمريكية لتقييد تصدير الأدوات المتقدمة إلى الصين؛ كما علقت TSMC بين ضغوط واشنطن للحد من المبيعات والاستثمار في الولايات المتحدة وحاجة السوق الصينية الهائلة.
لغز الاقتصاد وخطر التبعية الخفية
لكن السياسة والقانون هما فقط جزء من القصة؛ الحقائق الاقتصادية والحسابات تجعل المسار أكثر صعوبة. استثمرت الصين استثمارات ضخمة في الطبقات "الأساسية" لإنتاج الرقائق (المعروفة باسم العقد القديمة)، ولديها الآن حصة سوقية كبيرة في بعض هذه القطاعات.
حذرت صحيفة Financial Times من أن تركيز الولايات المتحدة فقط على الرقائق "فائقة التقدم" قد يخلق نقطة ضعف، لأن الصين في إنتاج الرقائق الأساسية المستخدمة في ملايين الأجهزة، ليست بعيدة عن تحقيق الاكتفاء الذاتي؛ وهذا يمكن أن يخلق نقطة ضعف في سلسلة توريد الولايات المتحدة في أوقات الأزمات.
نقطة أخرى تظهر في التقارير الحديثة، هي التكلفة الاقتصادية المباشرة للعقوبات والقيود على الشركات الموردة للمعدات. شركات مثل Applied Materials أعلنت مؤخرًا أنها تتوقع انخفاضًا ملحوظًا في الإيرادات بسبب قيود التصدير والتغيرات في السوق الصينية؛ إشارة إلى أن الضغوط الجيوسياسية يمكن أن تتحول بسرعة إلى خسائر للاعبين صناعيين كبار أيضًا.
هذه الحقيقة تمثل لغزًا لصانعي السياسات: كيف يوازنون بين الأمن الوطني والمصالح الصناعية؟
في الوقت نفسه، اتخذت الحكومات تكتيكات قانونية وتنفيذية أخرى. ادعت تحقيقات حديثة أن بعض شحنات الرقائق اتهمت بتجاوز القيود بأساليب مثل استخدام شركات وسيطة أو حتى، وفقًا لبعض التقارير الإخبارية، تضمين أجهزة تتبع في الشحنات لتعقبها؛ دليل على أن السيطرة الكاملة على تدفق التكنولوجيا ليست أمرًا بسيطًا وأن عنصر العمليات الميدانية التنفيذية دخل المعادلة.
مثل هذه الإجراءات المعقدة، دفعت بحرب الرقائق إلى ما وراء طاولة المفاوضات الرسمية إلى مجالات العمليات والوكلاء بالنيابة.
تحايل على العقوبات في المعركة العالمية للرقائق
في شينزين، تدخل شاحنة تحمل لوحة شركة لوجستية محلية مستودعًا صغيرًا. داخل البالات، صناديق ذات تغليف مألوف ظاهريًا لسوق الإلكترونيات؛ لكن ما بداخل العبوات هو تلك "المكونات الصغيرة حاسمة المصير": وحدات الذاكرة، لوحات التحكم، وبين الحين والآخر وحدات معالجة يمكنها تشغيل آلات الذكاء الاصطناعي.
في السنوات الأخيرة، أصبحت سلسلة النقل الخفية هذه مسرحًا لأحد أهم المنافسات الصناعية والأمنية في العالم؛ معركة تمتد من قاعات التشريع في واشنطن إلى ورش توريد القطع في شينزين.
قررت واشنطن توجيه ضربة حاسمة: صممت قيود تصدير جديدة لقطع تدفق معدات إنتاج الرقائق وبعض الرقائق المتقدمة إلى الصين. الهدف، وإن كان بسيطًا، إلا أن تنفيذه صعب: منع وصول الصين إلى الأدوات والرقائق التي يمكنها تسريع القدرات الحاسوبية المتقدمة، بما في ذلك في الذكاء الاصطناعي أو الأنظمة العسكرية.
كانت هذه السياسة مزيجًا من الضغط الدبلوماسي والتقني؛ سعت الولايات المتحدة ليس فقط إلى سد البيع المباشر للمعدات، بل أيضًا إلى إغلاق طرق التحايل.
التحايل والتهرب: المعركة في الميدان العملي
لكن لكل قفل مفتاح دائمًا. أحد التكتيكات التي أشارت إليها التقارير مرارًا هو "الترانزيت/النقل عبر دولة ثالثة": إرسال القطع من دولة ليس لديها قوانين تصدير صارمة إلى الصين، عبر كندا، المكسيك، أو حتى الإمارات.
وثقت المؤسسات البحثية والإخبارية أيضًا أن بعض الشحنات حاولت عبور مرشحات التجارة عبر شركات وسيطة، أو تغيير الوصف التجاري، أو إعادة التغليف. هذه الأساليب تظهر أن السيطرة الكاملة على تدفق التكنولوجيا في سوق عالمية مترابطة ليس أمرًا سهلاً.
على المستوى الصناعي، لعب الفاعلون الرئيسيون دورًا محوريًا. شركة TSMC التايوانية العملاقة لإنتاج الرقائق، تابعت في السنوات الماضية مشروعًا باستثمارات ضخمة في أريزونا يهدف إلى تقليل تركيز الإنتاج المتقدم في آسيا؛ دبلوماسية اقتصادية مفيدة لكل من واشنطن والشركة نفسها.
لكن TSMC علقت بين رغبتين متعارضتين: الاستثمار في أمريكا مقابل السوق الصينية الهائلة التي تشكل جزءًا كبيرًا من إيراداتها. أظهرت هذه المعضلة أن سلسلة إنتاج الرقائق ليست "وطنية"؛ بل هي شبكة عالمية معقدة، وفصلها عن بعضها له تبعات اقتصادية متشابكة.
في السويد وهولندا، وقع مصنعو معدات الطباعة الضوئية، أهم تكنولوجيا في صنع الرقائق المتقدمة، في مركز العاصفة أيضًا. شركة ASML الهولندية، المُصنِّعة الوحيدة لآلات الأشعة فوق البنفسجية القصوى التي تتيح إنتاج عقد أقل من 7 نانومتر، ناضلت بين الرغبة التجارية وضغوط الحكومات.
وقع الحكومات الأوروبية تحت ضغط أمريكي لتقييد تصدير المعدات الحساسة إلى الصين؛ أعلنت ASML مرارًا أنها ستلتزم بالقوانين، لكن مصحوبة بهذه الالتزامات، برزت تحذيرات حول الأثر الاقتصادي وتعقيدات توريد القطع.
رد فعل الصين: الاستثمار الداخلي وتحايل على العقبات
لكن الصين لم تبق ساكنة؛ نتيجة سياسة الضغط، كانت تسريع الاستثمار الداخلي. أعدت بكين صناديق حكومية، صناديق بعشرات المليارات من الدولارات، لمساعدة الشركات المحلية على تطوير خطوط إنتاج وتصميم الرقائق. شركة SMIC، الفاعل الصيني الرئيسي في مجال إنتاج الرقائق، والشركات الصينية الأخرى، استطاعت بهذه الأموال والحوافز بناء قدرات أكثر والتجهيز في بعض الفروع.
يقول المحللون إن الصين تتبع مسارًا مزدوجًا: نمو القدرات الأساسية (المعروفة باسم العقد القديمة) المستخدمة بكميات كبيرة، والجهد المستمر للاقتراب من العقد الأكثر تقدمًا بالاعتماد على المعدات والتصميم المحلي.
لكن أحد أهم ساحات القتال، كانت رقائق تسريع الذكاء الاصطناعي؛ المعالجات التي تنتجها شركات مثل Nvidia. ردًا على ذلك، فرضت الحكومة الأمريكية قيودًا على تصدير بعض كروت الشاشة والرقائق المتقدمة للذاكرة لإبطاء قدرات التدريب وخوادم الذكاء الاصطناعي في الصين.
مع ذلك، أظهرت تحقيقات أنه حتى بعد فرض القيود، دخلت شحنات من الرقائق المتقدمة السوق الصينية؛ عبر بائعي جهات خارجية، أو شركات حكومية غير واضحة، أو شبكات توريد محلية وزعت هذه القطع في الأسواق المحلية.
هذه الحقيقة تظهر أن قطع تدفق التكنولوجيا التجارية تمامًا، يواجه تحديات عملية كبيرة.
تكلفة الحرب ولغز صنع السياسات
تكلفة هذه الحرب ملموسة أيضًا للاعبين الصناعيين الغربيين. شركات مثل Applied Materials أعلنت مؤخرًا أنها ستشهد تأثيرًا ماليًا ملحوظًا بسبب قيود التصدير وضعف السوق الصينية؛ نظرة قاسية إلى أن السياسات الأمنية يمكن أن يكون لها رد فعل اقتصادي مباشر على المنتجين.
بالإضافة إلى الخسائر المالية، فإن التعقيدات القانونية للامتثال للعقوبات وتحديد المسار القانوني للشحنات، رفعت أيضًا التكاليف الإدارية والتشغيلية لهذه الشركات.
وسط هذه المعارك الاقتصادية والدبلوماسية، يبرز سؤال سياسي مهم: "هل تمتلك القيود قدرة طويلة الأمد لإبطاء تقدم الصين في الرقائق المتقدمة؟"
تقارير مراكز الأبحاث الموثوقة تحذر أن الضوابط يمكنها تقليل سرعة تقدم الصين لكنها لا توقفه؛ الصين باستثمارات حكومية ضخمة، وتعاون محلي، وجهود لتطوير معدات محلية، يمكنها سد الفجوات تدريجيًا؛ وإن كان ذلك بوقت وتكلفة أكبر بكثير. هذا يعني فترة انتقالية طويلة وتنافسية حيث يحاول كل طرف الدفاع عن المزايا الصناعية والأمنية في آن واحد.
مشهد حرب الرقائق لا ينتهي هنا: التقارير الحديثة تتحدث أيضًا عن جهود تنفيذية لفحص وتتبع الشحنات — إجراءات تشبه أعمال الاستخبارات والجمارك: تتبع الموردين، تقييم ملكية الشركات، وحتى استخدام معايير جديدة لـ "الثقة" في تجارة الرقائق.
هذا يظهر أن المعركة تجاوزت مستوى الشعارات والتشريع إلى الميدان التنفيذي، الأعمال، واللوجستيات. الصورة واضحة لكنها ليست بسيطة: الولايات المتحدة تحاول بالمال والقانون الحفاظ على الحصة والوصول إلى التكنولوجيات الحيوية؛ الصين ترد بالمال الحكومي، وبناء القدرات المحلية، ومسارات التحايل. بينهما، وقعت الشركات والأسواق العالمية؛ أصبح اللاعبون الصناعيون في نفس الوقت ضحايا وأدوات للسياسة.
سيناريوهات محتملة في المعركة الخفية للرقائق
رواية بقيت في مستودعات شينزين وغرف مجالس إدارة الشركات الغربية؛ حيث عبرت قطع شبه مخفية الحدود، وعلقت شركات مثل ASML و TSMC بين الضغوط السياسية والمصالح التجارية.
لكن الساحة الرئيسية لهذه الحرب، هي في الواقع المستقبل: مستقبل التكنولوجيات المتقدمة، والذكاء الاصطناعي، والهيكل الجيوسياسي العالمي الذي أصبح معتمدًا بشدة على الرقائق.
السيناريو الأول: انقسام دائم وانفصال تكنولوجي
في تحليلات مراكز أبحاث مثل كارنيغي endowment وبروكينغز، حذر مرارًا من أن استمرار قيود التصدير يمكن أن يؤدي إلى انقسام دائم بين سلسلة توريد الولايات المتحدة والصين.
ببساطة، يمكن أن ينقسم العالم إلى نظامين بيئيين للرقائق: واحد بقيادة الولايات المتحدة وحلفائها، والآخر بقيادة الصين. في مثل هذه الظروف، ستضطر الشركات العالمية لاتخاذ قرار بالبقاء في أي كتلة.
هذا السيناريو مكلف اقتصاديًا وتكنولوجيًا، لأن كل كتلة ستحاول بناء دورة كاملة للتصميم، الإنتاج، واستخدام الرقائق داخليًا؛ مهمة تتطلب سنوات ومئات المليارات من الدولارات من الاستثمار.
قال مسؤول سابق في وزارة التجارة الأمريكية في مقابلة مع وسائل الإعلام: "نريد إبقاء الصين متأخرة جيلًا أو أكثر في العقد المتقدمة. لكن النتيجة الطبيعية لهذه السياسة هي أنها ستبني كل شيء لأنفسها." هذا التوقع يكشف المعنى الحقيقي لـ "الحرب الخفية للرقائق": الولايات المتحدة تريد إبطاء سرعة الصين، لكن في نفس الوقت تكتسب بكين دافعًا أكبر للتوطين الكامل.
السيناريو الثاني: لعبة قط وفأر دائمة
تحليلات السوق تظهر أنه حتى بعد الحظر الصارم، تسللت شحنات من كروت الشاشة ورقائق الذكاء الاصطناعي إلى الصين. الهيئات الأمريكية والأوروبية حددت شركات وسيطة مرارًا وحذرت.
تشبه هذه القصة لعبة قط وفأر: كلما شددت أمريكا حلقة القيود، تتشكل شبكات جديدة للتحايل. نتيجة هذه الدورة ليست التوقف الكامل، بل زيادة التكلفة والتأخير في وصول الصين.
وفقًا لخبير في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، "الضوابط التصديرية يمكنها تقليل السرعة، لكنها لا تستطيع القضاء على دافع وإبداع دولة في إيجاد مسارات جديدة." هذا الرأي يظهر توقعًا ستجد فيه الصين، حتى مع التأخير، طرقًا للوصول إلى التكنولوجيات المتقدمة؛ سواء عبر تهريب التكنولوجيا، أو عبر استثمارات ضخمة في البحث والتطوير الداخلي.
السيناريو الثالث: منافسة على المعايير العالمية
أحد الساحات الأقل ظهورًا في هذه المعركة، هو مجال وضع المعايير العالمية. المنظمات الدولية بما فيها منظمة المعايير العالمية والاتحاد الدولي للاتصالات، هي منصات يتم فيها تحديد لوائح ومعايير المستقبل التقنية.
إذا استطاعت الصين زيادة نفوذها في هذه المنظمات وإقرار معاييرها المحلية، قد يتحرك جزء من العالم نحو قبول التكنولوجيات الصينية.
هذه هي "القوة الناعمة التقنية" التي تتجاوز خطوط الإنتاج إلى مستوى القوانين والأطر العالمية. الولايات المتحدة في المقابل تحاول تشجيع حلفائها على البقاء مشاركين في عملية وضع المعايير.
تبعات الحرب على مستقبل الذكاء الاصطناعي والأمن
حرب الرقائق ليست صراعًا صناعيًا فقط؛ تبعاتها المباشرة تظلل مستقبل الذكاء الاصطناعي. نماذج اللغة المتقدمة، أنظمة الرؤية الحاسوبية، والمشاريع العسكرية القائمة على الذكاء الاصطناعي، جميعها تحتاج إلى قدرة حاسوبية هائلة. كلما قيد وصول الصين إلى الرقائق المتقدمة، ستقل سرعة نمو هذا المجال داخليًا. لكن هذا القيد، في نفس الوقت، حافز لبناء رقائق بديلة محلية.
في الوقت نفسه، واجهت الشركات الغربية ضغطًا مضاعفًا. على سبيل المثال، اضطرت Nvidia لتصميم نسخ خاصة من رقائقها للسوق الصينية تكون ضمن النطاق القانوني المسموح. هذا جعل الموارد الهندسية والتصميمية تُستهلك في إنتاج نسخ "مخفضة" للامتثال للوائح بدلاً من التركيز على الابتكار. من ناحية أخرى، تقييد السوق الصينية يعني خسارة مليارات الدولارات من الإيرادات لهذه الشركات.
على المستوى الأمني، الرقائق هي العمود الفقري للتكنولوجيات الدفاعية: من أنظمة الصواريخ إلى المحاكاة العسكرية القائمة على الذكاء الاصطناعي. الولايات المتحدة قلقة من أن وصول الصين إلى الرقائق المتقدمة يمكنه تحدي التفوق العسكري الأمريكي في آسيا وأبعد من ذلك. وثائق البنتاغون الرسمية أشارت مرارًا إلى أن "السيطرة على الرقائق" جزء حيوي من استراتيجية الردع. في المقابل، وضعت الصين تطوير تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي العسكرية في الأولوية. هذه الطبقة العسكرية ضاعفت شدة وحساسية حرب الرقائق.
مستقبل غامض لكنه حاسم
بوضع هذه القطع معًا، تظهر صورة متعددة الأوجه: الولايات المتحدة تحاول عبر قيود التصدير، والدعم الضخم (قانون الرقائق والعلوم)، والتحالف مع أوروبا وآسيا، تأمين سلسلة توريد تحت نفوذها؛ الصين تتحرك بالصناديق المليارية، والسياسات الداعمة، والمسارات البديلة، نحو الاكتفاء التكنولوجي الذاتي. الشركات العالمية واقعة بين كتلتين، ومستقبل ربحيتها غير معلوم.
وفي النهاية، يقف سكان العالم على عتبة انقسام قد يشطر المستقبل الرقمي: إنترنت واحدة، اقتصاد واحد، وذكاء اصطناعي غربي؛ مقابل نسخة أخرى تطورت في الشرق. قال محلل صناعي في مقابلة مع Financial Times: "هذه هي الحرب الباردة للرقائق. إذا استمرت، كما قسمت الحرب الباردة النووية العالم إلى قطبين، فإنها هذه المرة ستقسم العالم الرقمي إلى قطبين."
لم تصل الحرب الخفية للرقائق بعد إلى ذروتها. لكن في كل مرة تُضبط فيها شحنة رقائق عند الحدود، وكل مرة تمنع فيها شركة من بيع معدات الطباعة الضوئية، وكل مرة تعلن فيها حكومة عن مليارات الدولارات لدعم الإنتاج المحلي، نشهد فصلًا جديدًا في هذا التنافس. تنافس سيعيد كتابة مستقبل الذكاء الاصطناعي، والاقتصاد الرقمي، وربما موازين القوى العالمية.
/انتهى/