مجزرة بنت جبيل: عدوانٌ مستمر على لبنان في جنوبه… فأين دعاة الوهم في السلام والأمان؟
شهدت بلدة بنت جبيل في قضاء بنت جبيل – جنوب لبنان – مجزرة إسرائيلية جديدة أودت بحياة عائلة لبنانية مؤلفة مِن خمسة أشخاص بينهم ثلاثة أطفال، لتعيد إلى الواجهة سؤالاً أساسياً:
بقلم: د.غازي قانصو
عميد كلية الدراسات في الجامعة الإسلامية في لبنان
المقدّمة
شهدت بلدة بنت جبيل في قضاء بنت جبيل – جنوب لبنان – مجزرة إسرائيلية جديدة أودت بحياة عائلة لبنانية مؤلفة مِن خمسة أشخاص بينهم ثلاثة أطفال، لتعيد إلى الواجهة سؤالاً أساسياً:
هل يمكن الحديث عن "سلام" أو "أمن" في ظل عدوان متواصل وانتهاكات ممنهجة لسيادة لبنان؟
هذه الجريمة تأتي في لحظة سياسية حساسة يتواجد فيها قادة العالم في نيويورك للمشاركة في أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، ما يجعلها رسالة واضحة من العدو الإسرائيلي بأن التزاماته بالقرارات الدولية لا تتعدى كونها ورقة سياسية قابلة للتعطيل متى شاءت.
أوّلا-عرض الوقائع
الغارة التي نفّذتها طائرة مسيّرة إسرائيلية على بنت جبيل عصر الأحد، استهدفت سيارة ودراجة نارية، وأدّت إلى استشهاد خمسة أشخاص: محمد ماجد مروة، شادي صبحي شرارة وأطفاله الثلاثة (سيلين، هادي، سيلان)، فيما أُصيبت الوالدة وابنتها الكبرى بجروح خطيرة. المأساة اكتسبت بعداً إضافياً لأن العائلة المفجوعة تحمل الجنسية الأميركية، ما أثار تساؤلات حول موقف واشنطن التي ترفع لواء حقوق الإنسان فيما يغضّ جيش حليفها الطرف عن قتل أطفال يحملون جنسيتها.
محلياً، أدان رئيس الجمهورية اللبنانية جوزف عون المجزرة، قائلاً من نيويورك: "لا سلام فوق دماء أطفالنا، وعلى المجتمع الدولي أن يتحمّل مسؤولياته في وقف الانتهاكات الإسرائيلية." كذلك شدّد رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري على أن استهداف المدنيين يثبت أن إسرائيل تضرب عرض الحائط بكل المواثيق الدولية، فيما وصف رئيس الحكومة اللبنانية نواف سلام الغارة بأنها "جريمة موصوفة ضد الإنسانية".
ثانيا-استمرار خرق وقف إطلاق النار
منذ صدور القرار 1701 عام 2006 وتجديده لاحقاً، لم تتوقف إسرائيل عن خرق التفاهمات الدولية. الخروقات تراوحت بين الغارات الجوية، القصف المدفعي، الانتهاكات البرية، والاختراقات الجوية شبه اليومية. مجزرة بنت جبيل ليست سوى أبرز هذه الانتهاكات الأخيرة، إذ تزامنت مع اجتماع "الميكانيزم" في الناقورة بحضور المبعوثة الأميركية مورغان أورتاغوس، والذي لم يسفر عن نتائج ملموسة.
لبنان الرسمي حمّل إسرائيل مسؤولية تهديد الاستقرار، فيما شدّد على أنّ الجيش اللبناني ملتزم بتطبيق القرار 1701، لكن الخروقات الإسرائيلية المستمرة تجعل من الصعب على الدولة تنفيذ التزاماتها كاملة.
ثالثا-التحليل السياسي للواقع
مجزرة بنت جبيل تحمل دلالات متشابكة:
1. رسالة إسرائيلية للبنان: تلويح بأن أي محاولة لتثبيت معادلات جديدة في الجنوب لن تمر من دون ثمن دموي.
2. مقايضة سياسية: كيان العدو الإسرائيلة يستغل اللحظة الدولية في نيويورك لإرسال إشارات مفادها أنه غير ملزم بالاتفاقات إذا لم يُحقّق أهدافه في إضعاف المقاومة ونزع سلاحها، وهذه مقايضة مستحيلة الحدوث.
3. إحراج داخلي للبنان: إذ يجد نفسه بين ضغوط المطالب الدولية بحصرية السلاح بيد الدولة، وبين واقع عدواني متصاعد يبرّر وجود المقاومة وسلاحِها.
4. البعد الإقليمي: المجزرة تأتي في ظل حراك ديبلوماسي عربي ودولي حول مستقبل المنطقة، من السعودية إلى إيران، ومن قطر إلى تركيا في حين أنّ كيان العدوان "إسرائيل" يريد فرض نفسه لاعباً لا يمكن تجاوزه في الساحة الاقليمية لا سيما العربية.
5. البعد الدولي: صمت المجتمع الدولي المشبوه دائمًا، الذي يضعه موضع الاتهام بالشراكة في العدوان، أو الاكتفاء ببيانات تنديد شكلية، يكشف مجدداً ازدواجية المعايير. الولايات المتحدة التي تحدّثت عن "الاستقرار" في لقاءاتها مع المسؤولين اللبنانيين، لم تُصدر موقفاً حازماً إزاء مقتل عائلة تحمل جنسيتها.
رابعا-الاستنتاجات:
● مجزرة بنت جبيل تؤكد أنّ إسرائيل مستمرة في استراتيجيتها القائمة على العدوان العسكري لتحقيق مكاسب سياسية.
● لا يمكن الرهان على المجتمع الدولي كضامن للسلام والأمن، في ظلّ غياب آليات ملزمة لإسرائيل.
● لبنان أمام معضلة سياسية حاكها المسؤولون الحكوميين بإيعاز من الخارج: كيف يحمي نفسه من تفجير الداخل بخلافات حول دور المقاومة وسلاحها؟ في الوقت الذي يمعن فيه العدو الإسرائيلي باستمرار العدوان على لبنان كل يوم، ويرتكب المجازر والجرائم على انواعها دون حسيب ولا رقيب.
● المجزرة شكّلت إحراجاً للدول الغربية، خصوصاً الولايات المتحدة، لكنها لم تغيّر من واقع انحيازها التقليدي لإسرائيل.
● على المستوى العربي، برز تضامن إعلامي وسياسي محدود، لا يشفي غليلا، ولا يردعُ عدونًا، وهو دون ترجمة عملية في المؤسسات الدولية وليس له اثر في الدول الفاعلة.
خامسًا-التوقعات وآفاق المستقبل القريب:
● من غير المتوقع أن تشهد المرحلة المقبلة التزاماً إسرائيلياً بوقف إطلاق النار، بل على العكس، من الُمرجّح أن تتكرر الاعتداءات بشكل متفرّق لتكريس معادلة "الضغط بالعدوان المستمر" على لبنان.
● لبنان الرسمي سيواصل المطالبة بتطبيق القرار 1701، لكن دون أدوات ضغط فعلي على إسرائيل.
● على المستوى الدولي، ستحاول واشنطن التخفيف من وقع المجزرة عبر وعود بدعم الجيش اللبناني، من دون الضغط الحقيقي على إسرائيل.
● أما الأمم المتحدة، فستكتفي على الأرجح بإصدار بيانات تذكيرية بوقف النار.
● في المقابل، فإنّ المجزرة قد تعزّز خطاب المقاومة في الداخل اللبناني، وتضعف منطق الرهان على "السلام الوهمي". آفاق المستقبل القريب تشير إلى استمرار حالة "اللاحرب واللاسلم"، مع بقاء احتمالية تصعيد العدوان الإسرائيلي قائمة كلما اقتربت المفاوضات السياسية من ملفات حساسة مثل "المنطقة العازلة" أو "ترسيم الحدود".
الخاتمة:
مجزرة بنت جبيل لم تكن مجرد حادثة عرضية، بل محطة كاشفة لوجه الصراع الحقيقي: كيان العدوان الإسرائيلي لا يريد سلاماً حقيقياً، بل يسعى إلى فرض الاستسلام على لبنان بالقوة.
أما دعاة الوهم في السلام والأمن، فعليهم أن يدركوا أنّ العدوان لن يتوقف بالبيانات، بل بالوحدة الوطنية، وبامتلاك لبنان استراتيجية دفاعية للأمن الوطني متكاملة تحمي الأرض والإنسان.
/انتهى/