التهجير الذي لم يتم... والإحتلال استراتيجية جديدة
ستة عقود من الزمن،بل وأكثر، والشعب الفلسطيني يواجه في قطاع غزة محاولات متكررة وممنهجة من قبل الاحتلال الإسرائيلي لتهجيرهم وإفراغ الأرض من أهلها.
تسنيم/ امل شبيب
ستون عاماً وما يزيد، والألم والمعاناة ترافق هذا الشعب المتسمك بأرضه وترابه رغم محاولات العدو الإسرائيلي كسر إرادة عصية عن الإنكسار، متسلحة بالصمود والتوكل على الله، تتصدى لكل المؤامرات بصمود أسطوري يفوق الوصف.
هناك، في قلب هذا القطاع المحاصر، يُكتب التاريخ بصبر لا ينضب وعزيمة لا تعرف الهزيمة، لتظل غزة رمزاً حقيقياً للثبات في وجه الظلم والاحتلال.
فمن مخططات الترحيل القسري إلى الحوافز المغلفة، استنفد الكيان الإسرائيلي كل الوسائل لإخضاع غزة وإبعاد سكانها، لكن صمود أهل القطاع المستميت والتشبث بأرضهم قلب المعادلة، فغزة اليوم اثبتت أنها ليست فقط مكانًا على الخريطة، بل رمز حيّ للمقاومة والثبات، وصانع التاريخ الذي يثبت أن الشعب الفلسطيني قادر على التصدي لكل محاولات الطرد والتهجير.
إذاً، لم تبدأ فكرة تهجير الفلسطينيين من غزة مع حكومة بنيامين نتنياهو أو في عهد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، بل هي أقدم بكثير، إذ تمتدّ جذورها إلى أعقاب "نكسة حزيران" 1967، حيث توالت الخطط والمقترحات التي طرحتها الحكومات الإسرائيلية المتوالية، سواء اليسارية أو اليمينية، بهدف تفريغ غزة من سكانها الفلسطينيين، لكن جميع هذه المحاولات باءت بالفشل.
موشيه ديان
كيف نبتت بذور التهجير في أعقاب نكسة 1967 ؟
بدأت فكرة تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة بعد احتلال إسرائيل للقطاع والضفة الغربية عام 1967، حيث كان عدد الفلسطينيين في هذه المناطق نحو مليون نسمة، بينهم 400 ألف في غزة. كشفت صحيفة "هآرتس" عن مقترحات وخطط إسرائيلية متنوعة تهدف إلى تهجير الفلسطينيين من غزة إلى الضفة الغربية، الأردن، سيناء، أو دول أخرى، عبر طرق قسرية أو تحفيزية.
في يونيو/ حزيران 1967، صرّح وزير الجيش موشيه ديان علناً أن إخلاء 300 ألف فلسطيني من غزة يمكن أن يمهد لضم القطاع إلى الكيان، مع خطط لإفراغه من سكانه الفلسطينيين وتوطينه لليهود. بينما عبر رئيس الوزراء أنذاك ليفي إشكول عن استعداده للموت من أجل القدس، لكنه أشار إلى صعوبة ضم غزة التي يقطنها 400 ألف فلسطيني.
حاييم موشيه شابيرا
لم تكن هذه التصريحات والإقتراحات وحدها للتهجير، بل اقترح في تلك وزراء إسرائيليون عدة خطط منهم وزير الداخلية حاييم شابيرا الذي عرض نقل 200 ألف فلسطيني إلى العريش أو الضفة، نُضيف إليه مقترح وزير الشرطة إلياهو ساسون لتهجير الفلسطينيين إلى الأردن، وما أقترحه أيضاً الوزير يغال ألون بتهجير الفلسطينيين إلى سيناء، وحتى إلى كندا وأستراليا.
أما في أكتوبر/ تشرين الأول 1967، فقد ناقشت لجنة "تنمية الأراضي المحتلة" مقترحات لتجنيد اللاجئين في مشاريع عمل خارج البلاد، على أن يتم الترويج لذلك كجهود إنسانية، وليس حلاً لقضية اللاجئين.
ليفي إشكول وموشيه ديان
خلف الأبواب المغلقة: نقاشات إسرائيلية حول التهجير
استمرت المناقشات طوال العام بين تهجير كامل أو تقليل عدد السكان، مع توسع الفكرة لتشمل تشجيع الفلسطينيين على الهجرة خارج البلاد للعمل، ثم انضمام عائلاتهم إليهم.
في نهاية 1967، كشف إشكول عن تأسيس فرقة عمل سرية لتشجيع الهجرة الطوعية من غزة بهدوء، مع اقتراحات لنقل الفلسطينيين إلى دول مثل البرازيل والأرجنتين. وتضمنت الأفكار تقديم مبالغ مالية لكل أسرة فلسطينية مقابل مغادرة القطاع، وشراء أصولهم لتشجيعهم على الرحيل. ولتحقيق ذلك، أرسل الإسرائيليون ذوو الخبرة بالمجتمع العربي لإقناع القادة المحليين بتشجيع الهجرة الطوعية، بهدف هجرة هادئة تتيح للكيان إنكار تورطه المباشر.
غولدا مائير
في عهد رئيسة الوزراء غولدا مائير (1969-1974) استمر الاهتمام بتهجير الفلسطينيين، مع تركيز على تقليص عدد المخيمات في غزة. لكن وزير الجيش موشيه ديان حذر عام 1970 من القيام بأي خطوات علنية لتشجيع الهجرة، واقترح اعتماد خطة بطيئة وطبيعية دون إجبار السكان على الرحيل.
رحبعام زئيفي
زئيفي والرهان على التهجير الطوعي: استراتيجية في ظل الانتفاضة
لم تتوقف محاولات التهجير، بل عمل الكيان الصهيوني على تبطينها وإخفاءها والعمل من خلف الستار بأفكار ومقترحات مختلفة داخل الأوساط الإسرائيلية، وفي العام 1987 ظهرات نقطة بارزة في هذا السياق، وهو العام الذي اندلعت فيه الانتفاضة الفلسطينية الأولى. في ذلك العام، طرح الوزير الإسرائيلي رحبعام زئيفي، الذي اغتيل لاحقًا على يد المقاومة الفلسطينية في 2001، خطة للتهجير الطوعي تضمنت عدة خطوات تهدف إلى دفع الفلسطينيين للمغادرة طوعًا إلى دول عربية، عبر مجموعة إقترحات لمحاربتهم بحياتهم اليومية ومرقهم وتعليمهم وجاءت كالتالي:
•وقف عمل الفلسطينيين داخل الكيان، مما يحد من مواردهم الاقتصادية.
•إغلاق الجامعات الفلسطينية، لتعطيل العملية التعليمية.
•توقيف كافة الأنشطة الصناعية المشتركة مع الفلسطينيين.
•تقديم حوافز مالية لمن يوافق على الهجرة.
واستند زئيفي في مقترحه إلى تجارب ناجحة في نقل السكان بين دول مثل الهند وباكستان، وتركيا واليونان، حيث تمت عمليات التبادل السكاني باتفاق متبادل. ورأى أن هذا النوع من النقل الطوعي هو الحل الوحيد للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، إلا أن هذا الاقتراح قوبل بانتقادات واسعة.
أريئيل شارون
غزة الخفية: مركز تهجير الفلسطينيين بلا إعلان
وفي تشرين الثاني/نوفمبر 1987، خرجت إحدى خطط التهجير إلى العلن، حين تحدث أريئيل شارون، وزير الصناعة والتجارة آنذاك، أمام جمهور في تل أبيب عن ضرورة تشجيع التهجير الطوعي للفلسطينيين، وأكد وجود منظمة سرية تعمل على هذا الملف في قلب مدينة غزة.
كانت هذه المنظمة السرية، التي تقع مقراتها في شارع عمر المختار بغزة، تقدم للفلسطينيين الراغبين في الهجرة تذاكر سفر بلا عودة إلى دول في أمريكا الجنوبية، لا سيما باراغواي، عبر وكالة سفر مقرها في تل أبيب.
وعدت المنظمة هؤلاء المهاجرين بمساعدات مالية ودعم للإستقرار في بلادهم الجديدة، وقد استمر نشاطها لثلاث سنوات تمكنت خلالها من ترحيل حوالي ألف فلسطيني بطريقة سرية، وفقًا لتقارير الصحفيين الإسرائيليين يوسي ميلمان ودان رفيف في صحيفة واشنطن بوست.
في قلب معركة طوفان الأقصى: محاولات التهجير والرفض الفلسطيني
مع تصاعد الحرب الإسرائيلية وجرائم الإبادة الجماعية التي مارسها وما زال "جيش" الكيان الإسرائيلي منذ 7 أكتوبر 2023 حتى اليوم، عادت محاولات تهجير الفلسطينيين بقوة عبر خطط إخلاء قسري ونقل سكان القطاع إلى شمال سيناء، بدعم من وزراء يمينيين متطرفين ومستشارين أمنيين. وثيقة استخباراتية إسرائيلية كشفت عن خطة بثلاث مراحل لإخلاء السكان، وفرض حصار على المناطق التي تبقى فيها أعداد من الفلسطينيين، بهدف السيطرة الكاملة على غزة.
هذه الخطة التي جاء بها كل من ترامب ونتنياهو وحاولوا أقناع بعض الدول المجاورة مثل الأردن ومصر لإستقبال المهجّرين من بلادهم، لكن هذه المحاولات اصطدمت برفض الشعب الفلسطيني رغم كل مرارة الألم التي يواجهها اليوم وسياسة حرب التجويع والإستهداف المتعمّد والإغتيالات التي تتم.
كيف تصدّت غزة لكل محاولات التهجير؟
ولو عدنا الى التاريخ والمحاولات المتكررة للتهجير، لوجدنا أن هناك عدة أسباب دفعت إلى فشل محاولات تهجير الفلسطينيين من غزة طوال العقود الماضية، منها:
•الرفض الفلسطيني الراسخ: فالفلسطينيون في غزة يرفضون الهجرة والتهجير بأي شكل، ويرون في بقائهم صموداً ضد محاولات الاحتلال.
•الموقف العربي والدولي: الدول العربية المجاورة، خاصة مصر والأردن، رفضت استضافة موجات نزوح كبيرة من الفلسطينيين، خشية تأثير ذلك على استقرارها الداخلي وديموغرافيتها.
•المقاومة الفلسطينية: المقاومة المسلحة والشعبية الفلسطينية في غزة لعبت دوراً كبيراً في إفشال محاولات الاحتلال للسيطرة الكاملة وتهجير السكان.
•الضغوط الدولية: المجتمع الدولي وحقوق الإنسان يعارضون بشدة التهجير القسري، مما دفع الاحتلال إلى البحث عن طرق "ناعمة" لكنها لم تنجح.
صفقات القرن: رؤية ترامب لتهجير الفلسطينيين
صفقات مختلفة يأتي بها الرئيس الأميركي دونالد ترامب مع توليه كل رئاسة جديد، فمن ما يًسمى "إتفاقات ابراهام" التي جال بها على عدد من دول المنطقة ونفّذ التطبيع مع كيان الإحتلال مثل البحرين والإمارات والمغرب، جاء ترامب بخطة مع مجموعة من الشركاء تقتضي تنفيذ مشاريع تنموية ضخمة في غزة يقابلها تهجير الفلسطينيين تحت عنوان "ريفييرا الشرق الأوسط " غير أن هذه الخطة لم تلقَ قبولًا على الأرض، لأن ليس من السهل على أي أنسان أن يٌسحب منه أرضه ويتم نفيه الى خارج الحدود
معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي أكد صعوبة تجاوز العقبات السياسية والإنسانية، خاصة مع الرفض الفلسطيني والعربي، وأشار إلى أن الخطة تمس المبادئ الأساسية للصراع.
بدورها الكاتبة يارا هواري في صحيفة الغارديان وصفت الفلسطينيين في غزة بأنهم رمز المقاومة، حيث قاوموا كل محاولات محو وجودهم، رغم القتل والتهجير والدمار.
أما بعض الصحف الإسرائيلية المعارضة، فقد رأت أن تهجير الفلسطينيين إلى مصر أو الأردن سيشكل عبئاً ديموغرافياً وسياسياً هائلًا على تلك الدول.
فشل التهجير... وبداية فصل جديد من معركة "الاحتلال"
ستّون عاماً ونيف، والمحاولات تتكرر بوجوه مختلفة وتوقيعات متعددة، لكن النتائج كلها كانت واحدة: فشل التهجير لشعب صامد في أرضه، متجذراً فيها، غير أن حكومة مجرم الحرب بنيامين نتنياهو لم تكل ولم تملّ، فتوجهت الى استراتيجية ضاغطة على الشعب في غزة، هي إحتلال غزة، إذ لم يعد الهدف مجرد تهجير السكان، بل يسعى الاحتلال الإسرائيلي الآن إلى احتلال القطاع بالكامل، في محاولة لفرض السيطرة الكاملة عليه، بعد أن فشلت كل محاولات التهجير القسري والطوعي، رغم كل ما يواجهه نتنياهو من رفض لخطة الإحتلال من الداخل الإسرائيلي نفسه، ومن بعض قادة الإحتلال الذين كان يحسبهم من المقرّبين منه.
هذه الخطوة الجديدة تحمل في طياتها تحديات كبيرة، لكنها تؤكد أيضاً إصرار الفلسطينيين على الصمود في وجه محاولات الاحتلال المتكررة لمحو وجودهم.
غزة اليوم ليست فقط أرضاً يحاول الاحتلال تهجير سكانها، بل أصبحت ساحة صراع مفتوحة للكرامة والهوية والحقوق، والبقاء... فإما أن تكون غزة... أو لا تكون...
/إنتهى/