الخيام.. الذي لم يقصد أن يكون شاعراً

الخیام.. الذی لم یقصد أن یکون شاعراً

إن ميراثَ عمر الخيام للإنسان المعاصر، الذي يدور في دوامة الحياة بأقصى سرعتها، هو أن يتذوّق طَعم اللحظة: «لا تذكرْ ما مضى من الأمسِ الفائت، ولا تَجزَعْ لما لم يأتِ بعدُ من الآتي.»

وكالة تسنيم الدولية للأنباء - سواء انقضى على أشعاره عشرون عاماً أو مئتان، لم تفقد رباعيات الخيام مكانتها عند الإيرانيين؛ بل ظلّت دوماً ترياقاً يبعث السكينة في قلب الزمن. نداء الخيام ظل يذكّرنا بأن نستثمر اللحظة، ونتشبّث بالحاضر، وندع الجدل والضجيج وراءنا.

ومع أن رباعياته حظيت باهتمام بالغ من معاصريه ومن جاء بعدهم، فإن المفارقة تكمن في أن الخيام نفسه لم يسعَ يوماً إلى أن يُعرّف بوصفه "شاعراً".

كل ما وصل إلينا من آثار عنه، وما نُقل عن تلاميذه، وحتى الروايات التاريخية التي تحدّثت عن حياته، تؤكد أنّ مكانته الحقيقية كانت في ميادين العلم والفلسفة، وأن شعريته لم تُعرف إلا بعد مرور قرن على وفاته.

من هو الخيام؟

إمام غياث الدين أبو الفتح عمر بن إبراهيم الخيام النيشابوري، من كبار فلاسفة وشعراء ورياضياتيّي إيران، عاش أواخر القرن الخامس الهجري وأوائل السادس. كان الخيام من ألمع العقول في عصره، نال شهرة ومقاماً رفيعَين في حياته، وقد مجّده معاصروه بألقاب مثل "الإمام"، "الفيلسوف"، و"حجة الحق". وعلى الرغم من أن الخيام اليوم يُعرف بوصفه شاعراً على نطاق واسع، فإن معاصريه عرفوه أساساً كمفكرٍ وفيلسوفٍ وعالمٍ رياضيات.

ووفقاً لدائرة المعارف الإسلامية الكبرى، فإن أقدم المصادر التي تناولت حياة الخيام كُتبت بقلم أشخاصٍ إما التقوه شخصياً أو ارتبطوا به بشكل مباشر. وتصوّر هذه المصادر الخيام رجلاً تُعدّ مجادلته العلمية مدعاة للفخر، وشهادته اعترافاً بالفضل، ومكانته العلمية مثار تقدير.

ومن بين هؤلاء الذين تناولوا الخيام في كتاباتهم: بديع الأسطرلابي، جارالله الزمخشري، ونظامي العروضي وغيرهم.

أما الشاعر سنائي، فقد خاطبه في رسائله بلقب "زعيم الحكماء"، وشبّهه في ميدان الحكمة بعمر بن الخطاب في عالم الدين.

وكان يرى فيه تجسيداً للحكمة التي قرنها الله بـ"الكتاب" في القرآن، وجعلها أحد ركنَي بناء الحضارة.

ونظراً للمكانة التي تحظى بها كلمة "الحكمة" في فكر سنائي وشعره، فإن استخدامه لها في وصف الخيام دليلٌ على تقديره العالي له، علمياً وروحياً معاً.

أما نظامي العروضي، فقد لقّبه بـ"حجة الحق"، في إشارة إلى منزلته الفريدة في دنيا العلم والفكر.

أيّ خيّام؟

رغم أنّ آراء الخيام العلمية ما زالت تُدرس حتى يومنا، إلا أنّ شهرته كشاعر طغت على جوانب أخرى من شخصيته لدى عامة الإيرانيين.

وقد أدّى صراحته في التعبير عن أفكاره إلى أن يُنسب إليه كثير من الشعر على مدى القرون، بعضه كتبه آخرون ممن فضّلوا أن تُنسب أقوالهم إليه، لا لأنهم انتحلوا اسمه، بل طمعاً في الخلود تحت ظلاله، أو اتقاءً لسخط المتعصبين. إذ كان التعبير الجريء حينذاك قد يكلّف الشاعر لقبه، أو حتى حياته، بتهمة الزندقة.

ولهذا السبب، لا يزال الجدل قائماً حول عدد رباعيات الخيام ونسبتها الدقيقة إليه.

المرحومان فروغي وقاسم غنّي نشرا مجموعة تتضمن 187 رباعية منسوبة إلى الخيام، ثم تتابعت الجهود بعدهما لتقديم تحقيقات جديدة لأشعار هذا الشاعر ذائع الصيت؛ من صادق هدايت إلى أحمد شاملو، حيث عمد كلٌّ منهم إلى حذف بعض الرباعيات، وإثبات نسبة بعضها إلى الخيام بيقين، فيما اكتفى بوصف رباعيات أخرى بأنها «خياميّة» الطابع والأسلوب فحسب.

لقد ظلّ سؤال "كم عدد الرباعيات التي نستطيع حقاً أن ننسبها إلى الخيام؟" من الأسئلة المحورية في الأدب الفارسي، وهو سؤال يرتبط مباشرة بفهم فكر الشاعر وتوجهاته الفلسفية.

وعلى الرغم من أن للخيام مؤلفات علمية باقية، إلا أن الرباعيات تظل هي السبيل الأقرب إلى استكشاف دهاليز ذهنه، والدخول إلى أعماق روحه وخياله.

ولهذا تحديداً، يطرح شفيعي كدكني سؤاله الجوهري: أيّ خيام نقصد؟

صادق هدايت: البداية من ثلاثة عشر رباعية

يقول الدكتور أميرإسماعيل آذر، الأستاذ الجامعي والباحث في الأدب الفارسي، في حديث لوكالة تسنيم: «كان صادق هدايت أول من كشف عن 13 رباعية أصلية للخيام، نقلها من كتاب مصباح الهداية الذي وردت فيه هذه الأشعار منسوبة مباشرة إليه. وقد اعتبر هدايت هذه المجموعة نواة موثوقة، واعتمد عليها في التمييز بين ما هو أصيل وما هو دخيل من الرباعيات الأخرى.

ولعل ما شجّعه على اعتمادها أيضاً هو توافق كثير منها مع رؤاه الفكرية، ما جعله يرى فيها انعكاساً لميله الشخصي أيضاً. وقد أثمرت جهوده عن إصدار كتابٍ بعنوان أغاني الخيام ضمّ حوالي 60 رباعية منتقاة بعناية.»

ويتابع الدكتور آذر: «ما نُسب إلى الخيام من رباعيات ينبغي ألا يزيد عن هذا العدد بكثير؛ فالرجل لم يسعَ إلى أن يَظهر في صورة شاعر، ولم يجمع أشعاره في ديوان كما فعل، مثلاً، العطار النيشابوري في مختارنامه.»

ويؤكد هذا الباحث أن في إيران كثيراً من أصحاب الذوق الشعري، من يكتبون رباعيات تماثل فكر الخيام وتستقي من روحه، مشيراً إلى أثر الخيام العميق في الشعراء الذين جاؤوا بعده، وعلى رأسهم حافظ الشيرازي. ويقول: «إن بصمة الخيام واضحة في شعر حافظ، ويمكن تلمّس نَفَسَه في مثل هذه الأبيات:

كل لحظة فرحٍ تُتاح لك، اغتنمْها

فلا أحد يعلم ماذا تخبّئ الخاتمة.

عُمْرُك معلّق بشعرة، فانتبهْ

وكن عون نفسك، فما همّك غمّ الزمان؟...

ويؤكد الدكتور آذر أن الخيام ليس ذاك الذي يصوّره البعض على أنه سكران طائش غارق في اللذة لا يفيق، ويعتبر هذا التصور غير دقيق لا من الناحية الأدبية ولا العلمية. ويقول: "تأملٌ بسيط في شعره كافٍ لأن يكشف زيف هذا التصوّر. وسأكتفي هنا بذكر واحدة من رباعياته التي تنضح بالمعنى العميق والتأمل الوجودي:"

جاء النداء سحراً من حانة الخمر

يا أيها السَّكران في خمارنا المتمرّد

هيا، املأ الكأس قبل أن تُملأ عنّا

ويسبقونا إلى كأسٍ لسنا نملك أمره

ويضيف آذر: "هذه الرباعية ليست بعيدة، في معناها، عن مطلع إحدى قصائد حافظ الشيرازي، والتي تقول:

الصبحُ، يا ساقي، هاتِ كأسَ المُدام

فالدهر لا يُمهل، فبادِرْ بالمرام

قبل أن يفنى هذا العالم الزائل

أسكرنا من خمر الوردِ القاني"

الخمّارة والسَّحر... مغزى يتجاوز الظاهر

يشرح الدكتور آذر بأننا نعلم، من حيث الواقع، أنه في أي زمان ومكان، لم تكن الخمّارات تُفتح وقت السحر؛ ربما تبقى عامرة حتى ذلك الوقت، لكن لا أحد يفتحها فجرًا. لذا، فإن قصد الخيام من ذكر السحر في هذه الرباعية ليس حرفيًا، بل هو إشارة رمزية إلى لحظة الصفاء والخلوة، وقت السحر، التي هي وقت مناجاة الله والانعتاق من ضجيج النهار.

ويضيف: "الخيام هنا، كما حافظ، يشير إلى لحظة روحية لا مادية. وهذا ما يتضح في أبيات حافظ الأخرى:

في السحر كنت أناجي النسيمَ بهمسي

فناداني صوت: توكّل على رحمة الله

أو في قوله:

في سحرِ الصبح جاءتني يقظةُ الحظ

وقالت: انهض، فقد أقبل السلطان العذب"

تذوّق لحظة الزمن

يُعد الخيام الشاعر الإيراني الأشهر خارج حدود بلاده. ويرتبط جانب كبير من شهرته العالمية بترجمة شاعر وأديب إنجليزي ذي ذوق رفيع، هو إدوارد فيتزجيرالد، الذي ترجم رباعياته إلى الإنجليزية بأسلوبٍ شعري ساحر، فقدم صورة جديدة للأدب والثقافة الفارسية لغير الناطقين بها.

وحين سُئل الدكتور آذر عن السر وراء هذا الانبهار الغربي بشعر الخيام، أجاب: "أول من ترجم رباعيات الخيام إلى الإنجليزية كان إدوارد فيتزجيرالد، في القرن الثامن عشر. وكان قد تعلّم الفارسية في مدرسة «اللغات الشرقية» في فرنسا، وهي المدرسة التي بدأت لاحقًا نشاطها في الهند أيضًا، ودرّست اللغات الفارسية والعربية والتركية والأردية."

ويُكمل: "قبل ذلك بمدة قصيرة، كان البروفيسور كاول قد عثر على نسخة من رباعيات الخيام في إحدى مكتبات الهند، فسلّمها إلى فيتزجيرالد، الذي وجد في هذه الأشعار روحًا جديدة، ونَفَسًا غير مألوف، فقرر أن يترجمها إلى الإنجليزية."

عِش الحاضر... ولا تذر عمرك للريح

يقول الدكتور آذر إن ترجمة إدوارد فيتزجيرالد لرباعيات الخيام بلغت من الفصاحة والبلاغة حدّاً جعلها تُدرّس لسنوات طويلة كمصدرٍ أدبي معتمد في جامعات الأدب الإنجليزي ببريطانيا. لم يكن ذلك لأن النص المترجم فارسي الأصل، بل لأن فيتزجيرالد قدّم عملًا شعريًا رفيعًا في حد ذاته، استطاع أن يحيي روح الخيام في لغةٍ أخرى بكل ألقها وسحرها.

ويشير آذر إلى أن شهرة الخيّام العالمية كشاعر تُقابلها شهرة فيتزجيرالد كمترجم، إذ أصبح اسمه مرتبطًا بهذا العمل الخالد. ويذكر أنه في لندن، أُنشئ ذات مرة متنزّه يحمل اسم "الخيّام"، وزُرعت فيه أزهار نُقلت من جوار ضريحه في نيشابور، عُرفت لاحقًا باسم "أزهار الخيام" أو "الزهور الإيرانية". لكن بعد الحرب العالمية الثانية، انقطعت أخبار تلك الحديقة، وقد تكون ما زالت قائمة إلى اليوم، وإن كانت في طيّ النسيان.

ويضيف أن الخيام يُعد أول شاعر فارسي تُترجم أعماله إلى لغات أجنبية، ليفتح بذلك بابًا أمام الأدب الفارسي ليبلغ الآفاق. تلاه في ذلك "كلستان سعدي"، الذي ترجمه أندرو دوريه إلى الإنجليزية، فأحدث أثرًا واسعًا في الذائقة الأدبية الأوروبية.

رُقيّ الزمن عند الخيام: أن تحيا اللحظة

ما يقدّمه الخيّام لإنسان القرن الحادي والعشرين، الذي تطغى على يومه العجلة وتكاد تبتلعه دوّامة الزمن، هو دعوة لتذوّق اللحظة والإمساك بالزمن الهارب. في عالم تُقاس فيه الحياة بالثواني، تصبح القدرة على التوقّف، على الامتنان للحال، أثمن ما يمكن للإنسان امتلاكه. يقول الخيام:

اليومَ لك، والغدُ ليس في يدك،

وفكرُك في الغدِ ليس إلا وَهْمًا يُضنِك.

فلا تُهدر اللحظةَ إن لم يكن قلبُك عاشقًا،

فما تبقّى من العمرِ لا يُشترى بثمنٍ يُدرك.

لا تذكرْ ما مضى من الأمسِ الفائت،

ولا تَجزَعْ لما لم يأتِ بعدُ من الآتي.

فلا تُشيِّدْ عمرك على ما لم يكن أو ولّى،

بل عِشْ لحظتَك سعيدًا، ولا تُبذّر حياتك في الريحِ العاتي.

/انتهى/

 
الأكثر قراءة الأخبار ثقافة ، فن ومنوعات
أهم الأخبار ثقافة ، فن ومنوعات
عناوين مختارة