في يوم تكريم جلال الدين الرومي.. قراءة على مائدة المعنى في مثنوي مولوي
ما الذي يمكن أن يمنحه مولوي، وشِعره الخالد المثنوي، لإنسان هذا العصر؟ وما الضالّة التي يفتقدها الإنسان المعاصر حتى يجدها في أثرٍ جرى نظمه قبل سبعة قرون؟
وكالة تسنيم الدولية للأنباء - وُصفت أشعار مولوي بأنها "لغة اللا لغة"، و"قرآن بالفارسية". ومنذ أن نزل جلال الدين محمد البلخي عن منبر الفقه عقب لقائه بشمس التبريزي، ودخل ميدان العشق صائحاً "هو، هو"، أخذت كلماته تسكن الأرواح، وتضرم نارها في غابة الوجدان. ومنذ ذلك الحين، صار كلُّ إنسانٍ يتبعه "على قدر ظنّه"، يبحث عن مفقودِه في بحار معانيه.
الهروب من المدرسة
وُلد جلال الدين محمد بن بهاء الدين البلخي، المعروف بمولوي، في السادس من ربيع الأول سنة 604 هـ بمدينة بلخ. وقد اشتهر بلقب "الرومي" و"مولانا روم" لطول إقامته في قونية، حيث استقرّت أسرته وفيها ضريحه. ومع ذلك، ظلّ يعدّ نفسه من أهل خراسان، عاشقاً لبلده وأهله.
كان والده محمد بن حسين خطيبي، الملقب بـ"بهاء الدين ولد" و"سلطان العلماء"، من كبار الصوفية وأعلام عصره. وبسبب علو شأنه وإقبال الناس عليه، ضاق به سلطان محمد خوارزمشاه، فاضطر الشيخ إلى هجرة بلده.
ويُروى أنه عند مروره بنيشابور التقى الشيخ فريد الدين العطار، وكان جلال الدين حينها صبياً، فأهداه العطار كتاب أسرارنامه وقال لوالده: "سريعاً ما سيُشعل ابنك هذا النار في قلوب العاشقين".
من الفقه إلى العشق
بعد وفاة والده، رحل جلال الدين الشاب إلى حلب والشام لطلب العلم والتزكية سبعة أعوام، ثم عاد إلى قونية حيث كان أهله قد استقروا. جلس نحو خمس سنوات على كرسي التدريس والإرشاد، وجلس بين يديه، كما يقول وكدولتشاه السمرقندي، أكثر من أربعمئة طالب ومريد.
لكن لقاؤه بشمس التبريزي كان المنعطف الأكبر في حياته، إذ أخرجه من جدران المدرسة إلى فضاء الخانقاه. غير أن هذا التحول لم يُعجب تلاميذه، حتى بلغ بهم الأمر إلى إيذاء شمس، فاختفى الأخير فجأة سنة 645 هـ، وكان لذلك الغياب أثرٌ بالغ على حال مولوي، تُلمَس آثاره في قصائده.
الرحيل
غادر مولانا الدنيا في الخامس من جمادى الأولى سنة 672 هـ. وكان تشييعه مشهداً فريداً يعكس فكره وروحه، حيث يُروى أنه لم يبق في قونية مسلم ولا يهودي ولا مسيحي إلا وشارك في وداع "خداوندكار العشق والعرفان".
قرآن بالفارسية
ترك مولوي آثاراً عديدة خالدة، وما زلنا بعد قرون نجلس إلى مائدتها نستضيء بمعانيها. وأشهرها المثنوي المعنوي، ذلك السفر العجيب المتجذّر في الآيات الإلهية والحكمة الربانية؛ كتاب لا يقف عند حدود الوزن والعَروض والقافية، بل يجعل من اللغة مجرّد وعاءٍ لتوصيل المعنى. استلهم مولوي أسلوب القرآن الكريم، فجاءت حكمته في صورة أمثالٍ وحكاياتٍ متعددة، ليدركها كل قارئ، أيّاً كان لسانه أو طبقته الاجتماعية.
ترياقٌ لأرواح مضطربة
قصائد المثنوي، على تنوّع موضوعاتها واتساع آفاقها، تلتقي جميعاً في غاية واحدة: تهدئة الروح البشرية وتعميق بعدها المعنوي. كان مولوي يؤمن أنّ الإنسان ما لم يبلغ صلحاً داخلياً، فلن يرى في الخارج سلاماً ولا طمأنينة. لذلك، فإن كلماته في عالم اليوم المائج بالأزمات، هي بمثابة الترياق لأرواحٍ متعبة وقلوبٍ مثقلة.
13 مليون نسخة من كتاب فارسي في الغرب
أمير إسماعيل آذر، الباحث وأستاذ الأدب الفارسي، أكّد في حديثه مع وكالة تسنيم أنّ "مولوي من أبرز الشعراء حضوراً في عالم اليوم"، مشيراً إلى الإقبال الكبير على المثنوي المعنوي في الغرب. فقد أصدر الشاعر والمترجم الأمريكي كولمن باركس قبل نحو خمسة عشر عاماً ترجمة جديدة للمثنوي، سرعان ما لقيت رواجاً واسعاً. كانت ترجمته مقتبسة عن ترجمة آرثر آربري، التي وُصفت بالصعوبة والتعقيد، ولم يكن يسهل على عامة القراء فهمها؛ فجاء باركس بصياغة ميسّرة جعلت النص قريباً من القلوب، حتى بيعت أكثر من 13 مليون نسخة من عمله، وأعاد المثنوي إلى الواجهة في العالم الغربي.
ولكن، ما الذي يملك كتاب مولوي حتى يجذب هذا الكم الهائل من القرّاء؟
آذر يجيب: إنسان العصر أسير قيود لا يدركها، أسوار تحيط به أينما التفت، تحوّل حياته إلى ضيق وقلق وهموم. فالحدود تُنجب المخاوف، والتشوّشات، والأحزان. ولذا، حين يرتكب المرء خطيئة، يُعاقَب بالسجن وتُفرض عليه قيود، كأنّ حياة الإنسان برمّتها امتحانٌ بين الحرية والأسر.
فنّ مولوي الباقي
وقال آذر مؤكداً: «مولوي هو من وصل الإنسان المحدود باللامحدود»، ومنح الإنسان بهذا الوعي أنفاساً من الطمأنينة، ليشعر أنه ليس وحيداً في هذا الوجود. فكل الآلام تنبع من القيود، وكل "أنا" متضخّمة تتجلّى بأشكال مختلفة إنما هي وليدة حدود الإنسان وضيق أفقه، وهي التي تجرّ عليه المعاناة.
وأضاف الأستاذ الجامعي: «مولوي جعل الإنسان المحدود مضافاً إلى اللامحدود». لقد رأى أن مكمن شقاء الإنسان في ضيقه وانحصاره، كما يقول في ديوان شمس تبريزي:
الحزنُ يسكنُ قلباً لا هوى فيهِ
والهمُّ يغدو حيثُ لا حُسنٌ ولا زيـنُ
درجةً درجة… حتى لقاء الله
كان الإنسان في العصور البعيدة يبحث عن آلهةٍ يلمسها بيده، فاتخذ الأصنام معبوداً له. ثم ما لبث أن حلّ الفراعنة ومن شابههم محلّ الإله. غير أنّ إبراهيم الخليل (ع) أعلنها صريحة: «إنّي لا أحبّ ما يأفل»؛ كلّ ما هو محدود لا يستحق العبادة. وهذه هي بالضبط الغاية التي ينشدها مولوي: أن يفتح للإنسان طريق السَّير من المحدود إلى اللامحدود. ولأجل ذلك، نسج في مثنويه آلاف القصص والحكايات.
وبحسب ما يقول آذر، فإنّ هذا النَّفَس الروحي حاضرٌ كذلك في أشعار العطار، حيث يروي:
جاء مضطربٌ يبكي بين يدي الشبلي،
فسأله الشيخ: ما سرّ دموعك؟
قال: يا شيخ، كان لي حبيب، من جماله كانت روحي تتجدّد،
لكنه مات بالأمس، فمتُّ من غمّه، واسودّت الدنيا في وجهي.
فقال الشبلي: أهذا ما أذهب عقلك؟ أيّ حزنٍ هذا؟ بل أنت أحقّ بحزنٍ أعظم!
فابحث عن صديقٍ آخر يا صاح،
صديقٍ لا يموت… كي لا تموت أنت بموته.
ومولوي نفسه يقول في الدفتر الأول من المثنوي:
اختر ذاك الحُبّ الذي لا يزول،
ذلك الذي ساقيهُ من خمرٍ يحيي الأرواح…
آذر يشير إلى أن أثر كلمات مولوي ظلّ متواصلاً عبر العصور، وجوهر خطابه هو سعيه الدائم لرفع الإنسان وتقريبه من الله. وهذا هو الفنّ العظيم لمولوي، إذ أدّى هذه الرسالة بألوانٍ شتّى، عبر القصة والرمز والتمثيل.
/انتهى/