إيران؛ وطن قلب الشاعر شهريار
الوطنية في شعر شهريار بعيدة عن ضجيج السجالات السياسية، وهي مشبعة بروح إيران نفسها؛ بامتدادها واتساعها وتنوعها، كما تجري في حياة الناس.
وأفادت وكالة تسنيم الدولية للأنباء بأن «إيران» كانت خيط الوصل بين جميع الشعراء الذين نهضوا على هذه الأرض النفيسة منذ رودكي وفردوسي وحتى اليوم، وأطلقوا صوتهم من خلالها. إن الالتفات إلى الهوية الوطنية في العصر الحديث، ولا سيما في مواجهة الوطن مع القوى الغازية والاستكبار المتكئ على عملاء الداخل، أضفى أبعادًا جديدة على هذه الهوية، وتكرر في دواوين الشعراء المعاصرين مرارًا بموضوعات وصور شتى. فقد تجلّت وطنية الشعراء تارة في أناشيد عارف، وتارة في صلابة قصائد بهار، وتارة أخرى في أهازيج حميد سبزواري التي رددتها الألسن، أو في غزلٍ من هوشنك ابتهاج (سايه) صدح به صوت شجريان، يطرب الآذان. وهكذا تكرر هذا النسق في مفاصل مختلفة من التاريخ، ومع حضور شعراء كثر، ليمنح الشعر الوطني الإيراني لونًا جديدًا في كل مرحلة.
في هذا السياق، يبرز شعر شهريار كأحد العلامات الفارقة في أدب إيران المعاصر. فهو، ابن آذربيجان النقي، كان يحمل رؤية عقلانية للهوية الوطنية؛ رؤية بعيدة عن تعصبات القومية الضيقة، تعترف بمختلف القوميات الإيرانية وتنوع مذاهبها ومعتقداتها. في شعر شهريار تتجاور ثلاثة عناصر أساسية: الهوية الوطنية، الهوية الدينية، والهوية القومية، ما يميز شعره عن الكثير مما قيل في الوطن. ومن هذا المنطلق، يمكن اعتبار شعره مرآة لإيران بكل أطيافها وميولها ومعتقداتها المتعددة.
شهريار شاعر إيران
هادي بهجت تبريزي، نجل الشاعر الراحل شهريار، يصف والده في حوار مع مراسل تسنيم بأنه «شاعر الشعب» و«شاعر إيران». ويقول: شهريار لم يكن عابدًا للهوية، بل كان محبًّا لها دون أن يقدّسها، وكان يرى جوهر الإنسان في عقله وعالمه الروحي الأعلى. كان أكثر شرقيًّا وإيرانيًّا، ورأى في إيران شيئًا أكبر من حدودها الجغرافية. وهو على حق، فها هو مرقد رودكي اليوم في طاجيكستان، ومرقد سنائي في أفغانستان، فكيف يمكن حصر إيران ضمن هذه الحدود وننكر تلك البلاد على هويتها؟ كل إنسان يملك وطن قلب، ووطن قلب شهريار كان إيران بلا حدود سياسية.
شهريار ووحدة الوطن
في السنوات الأخيرة، أُثيرت أحيانًا نقاشات حول الفوارق بين الناطقين بالفارسية والناطقين بالتركية الآذرية في مدن مثل تبريز، نقاشات تتخذ طابعًا تفريقيًا يهدد الوحدة الوطنية. بهجت تبريزي يؤكد أن شهريار كان يتجنب هذه المماحكات، ويعدها مضرة ومُضعِفة، فيقول: شهريار كان شاعرًا إيرانيًا بكل معنى الكلمة، حياته كلّها كانت لإيران. لم يسافر يومًا إلى خارج البلاد، رغم كثرة الدعوات التي وُجّهت إليه. كل ما كان يألفه في حياته من أدوات وأشياء كان إيرانيًا وصُنع الوطن. أما معظم أشعاره عن الثورة فقد كُتبت ابتداءً من عام 1979 ومع اندلاع الحرب المفروضة.
إيران لم تُرزق بولدٍ شجاع مثلك
تتجلّى علامات الوطنية في شعر شهريار بأشكال مختلفة، فبعض قصائده تتناول الوطن مباشرةً، وضرورة صونه، والإشارة إلى أساطير إيران، وجغرافيتها، والاعتزاز بتاريخها العريق، من دون أن يقع في فخّ النزعة القومية الضيقة. ولهذا السبب وصفه ملك الشعراء بهار، في المقدمة التي كتبها على ديوان شهريار الشاب سنة 1931م، بأنه «ليس فخر إيران وحدها، بل فخر المشرق بأسره». ومن جملة ما قاله شهريار في وصف تاريخ إيران المشرق:
مسلَّم أنّ لإيران في الآفاق
ريادةً بالثقافة والحضارة
وكانت كلُّها مودةً ومحبةً، وتاريخها
خيرُ شاهدٍ على صدق هذا الادعاء
ولا يزال سوادُ عيون الهند والختن
يكتحل بتراب نادرَ الأفشاري
لكن في ذود الوطن يضع العِرقُ الآري
الرأسَ والروحَ معًا على راحة الكف
الوطنية عند شهريار مقرونة بالهوية المحلية
ومن أبرز سمات أشعار شهريار الوطنية، جمعه بين حبّ الوطن والهوية المحلية، كما يتجلى في أبياته:
وحيدة هي إيران، فلا تُصغِ لقول الأوباش وضلّال الطريق،
فداكِ نفسي، يا حبيبة الأرواح، يا آذربيجان!
كلُّ بلاءٍ قد يُقدَّر على إيران العزيزة،
يُضاعَف نصيبُها من الخسران إن أصاب رأسها مكروه.
ما لإيران من ولدٍ باسلٍ مثلك،
فعينُ أملها يوم الشدّة لا تزال عليك معلّقة.
أنتَ ذاك الابن الحبيب الذي فداؤك،
لا يبلغه وصفُ حديثٍ ولا يسعه لسان.
اهتمام شهريار باللغة الفارسية
وجزء آخر من شعره الوطني يرتبط بلغة الفارسية وخطها وإرثها الباقي؛ ففي قصيدة كتبها بمناسبة تكريم مولوي و«المثنوي المعنوي» يقول:
إن الناي الذي عزف الروم، والقيثارة التي صوّبها نظامي،
هي كأس أسطورة الشرق، التي يجري فيها روح جَمّ الحي.
وكذلك:
الشاهنامه هي طبْلُنا ودُفّنا،
والمثنوي هو القيثارة والناي والجُرس عندنا...
وفي موضع آخر يقول:
أوروبا ثملةٌ من وصايا سعدي،
وغوته حائرٌ أمام بيتٍ من حافظ.
ويعلّق نجل الشاعر قائلاً: كان والدي يقول: رغم أن التركية هي لغتي الأم وأكنّ لها المحبة، فإن رسالتي يجب أن أؤديها بالفارسية. فاللغة الفارسية، بما تحمله من آثارها الكلاسيكية في الأدب، لها مكانة عالمية، ويقدّرها المستشرقون خير تقدير.
لماذا لا يشقّ الشهيد كفنه بنفسه؟
أما البُعد الثالث في أشعاره الوطنية فيتجسد في ما كتبه عن المقاتلين والشهداء إبان الحرب المفروضة التي استمرت ثمانية أعوام. لم يكن شهريار من أولئك الشعراء المنغلقين في برجٍ من الخيال بعيدًا عن قضايا زمانه، بل كان حاضرًا بقلمه في قلب الأحداث. ولهذا السبب عُرف في نظر الإيرانيين بأنه شاعر الشعب. لقد تجسّد انشغاله بهذا الجانب في قصائد كتبها للوطن في عقد الثمانينيات، وكذلك في أبياتٍ خطّها تلبيةً لرغبة عائلات الشهداء كي تُنقش على شواهد قبورهم. لكن هذه المواكبة لم تمرّ عليه من دون متاعب.
وفي هذا السياق، يقول الباحث محمد طاهري خسروشاهي لوكالة تسنيم: إن دراسة ديوان شهريار تكشف أنه، منذ البدايات الأولى لغرس شجرة الثورة، أدّى دور البستاني الأمين في رعايتها. ولا شك أن جانبًا كبيرًا من شعبيته بين الإيرانيين، إضافةً إلى غزلياته الفارسية المتدفقة ومجموعته الفريدة «حيدر بابا»، إنما يعود إلى صدقه وإخلاصه في مواكبة الثورة الإسلامية لشعب إيران.
بحسب قوله؛ فإن النقطة المهمة في ما يخص أشعار شهريار الثورية، أنّه بسبب نظمه هذا اللون من الشعر كان عرضةً لانتقادات بعض الشعراء اليساريين المعاصرين، ومع ذلك ظلّ شهريار ثابتًا في موقفه، مدافعًا بصلابة عن القيم الدينية والثورية.
ومن هذا القبيل، ترد نماذج عديدة في ديوانه، منها:
سلامٌ أيها المقاتلون الشجعان،
أيتها الحيتان السابحة في الدماء والطين.
سلامٌ أيتها الصخورُ المتراصة،
في مواجهة الدبابات ذات الأجسام الجبلية.
هذا هو صفّ الجهاد في صدر الإسلام،
صفّ عمّار ياسر ومالك الأشتر.
وقد وصفه القرآن بأنه «بُنيان مرصوص»،
صفّ مولى علي، القائد صفدر.
صفٌّ لا يسمع فيه أذنٌ إلا لأمر،
إلا أذنًا تصغي لطاعة القائد.
صفٌّ إذا ما أحاطه الدخان والنار،
يتشبث قلبه بربّ داورٍ قدير...
أما النظرة الرقيقة للشاعر في غزليته «شهيد العشق» فهي مثال آخر على إخلاصه للوطن وأبنائه الذين ضحّوا بدمائهم الطاهرة في سبيله:
إذا مررتَ بتربتي، فامزّق جيبك كالزهور،
فقد نمتُ في التراب كالشقائق مثخنًا بجراحك.
وكما تخرج الزهرة في الروض برايةٍ دامية،
فلماذا لا يشقّ شهيد العشق كفنه بيديه؟
غرستُ رأسي في التراب بجرحٍ نازف،
على أمل أن تنهضني زهور الخُزامى من الثرى.
وإن كنتُ في الدنيا قد جئتُ بثوبٍ مشقوق،
فالحمد لله ألف مرة أن رحلتُ كزهرة بثوبٍ نقي.
وإذا مررتَ بقبري، يا زهرة، بطِيب نفس،
فارفع شفتَيك بفاتحة، فقد طيّب الله فاك...
ويقول في مقاطع من قصيدته «أسبوع الحرب»:
أوليس وعد القرآن لنا بالنصر؟
والله العزيز الجليل لا يُخلِف الميعاد.
الظالم يقع صريعًا بسهمٍ من الغيب،
أولم يقل الله: «ربّكم لبالمرصاد»؟
أنتَ يا شهريار، أرسل رسالةً إلى المقاتلين:
عيد الفتح المبين مباركٌ عليكم!
إن نظرة شهريار إلى مسألة الوطن هي رؤية مشبعة بالعاطفة الصادقة والإحساس الشعري، مستندة إلى مكتسباته التاريخية والثقافية وتجربته الملموسة من حياة الإنسان الإيراني في العصر الحديث. فالوطنية في شعره بعيدة عن المهاترات السياسية، مشبعة بروحٍ تشبه روح إيران نفسها؛ بامتدادها واتساعها وتنوعها، كما تجري في حياة الناس.
/انتهى/