من "الشتاء" إلى "وارطان"؛ روايتان عن مأساة وطنية

من "الشتاء" إلى "وارطان"؛ روایتان عن مأساة وطنیة

رغم أنّ أثر انقلاب أغسطس 1953 على الشعر الإيراني في تلك المرحلة لا يمكن إنكاره، وأننا نجد بصماته واضحة في أعمال كثير من الشعراء، فإن قصيدة "زمستان" (الشتاء) لأخوان ثالث تُعدّ النموذج الأوفى لتجسيد هذا الحدث.

وكالة تسنيم الدولية للأنباء، لم يكن انقلاب 28 مرداد (آب/أغسطس 1953) مجرد منعطف سياسي واجتماعي في تاريخ إيران منذ خمسينيات القرن الماضي، ولا مجرد إعلان لنهاية آمال وأحلام الإيرانيين، بل امتد أثره إلى مختلف الحقول الأدبية والفكرية. فمصائر الذين عارضوا الشاه، وما عانوه من سجون ونفي وقتل، أو الآثار التي خُلقت في أجواء اليأس وخيبة الأمل بعد الانقلاب، تكشف حجم تلك الكارثة الوطنية.

يشير الراحل إيرج أفشار في كتابه "نادره‌كاران"، وهو مجموعة من مذكراته عن نحو ستمئة شخصية ثقافية وأدبية، إلى معاناة بعض المعارضين وما تعرضوا له من اعتقال طويل أو موت تحت وطأة التعذيب، لمجرد وقوفهم في وجه السلطة.

غير أنّ تأثير الانقلاب لم يقتصر على الأفراد فحسب، بل غيّر أيضاً مسار الأدب والفن الفارسي. فالشعر، الذي ظلّ لقرون مرآة وجدان الإيرانيين وذروة فنونهم، كان الأشد تأثراً. ولذا يرى النقاد أن تاريخ الشعر الحديث يمكن تقسيمه إلى ما قبل الانقلاب وما بعده.

في شعر تلك المرحلة، يطغى الأسلوب الرمزي واللغة المشبعة باليأس والنبرة التراجيدية. ومن هنا وُصف شعراء تلك الحقبة بـ"شعراء الهزيمة"، إذ رأوا في الانقلاب ليس مجرد خسارة سياسية بل مأساة قومية وانكساراً للحلم الإنساني.

في هذا السياق وُلدت قصيدة "زمستان" (1955) لمهدي أخوان ثالث، لتغدو أيقونة للشعر بعد الانقلاب، فهي ترسم صورة مجتمع خانق: "إن مددت يدك بمودّة إلى أحد/ يخرجها متثاقلاً من جيبه/ فالزمهرير قاسٍ ولا يُطاق…".

ولم يتوقف أخوان عند "زمستان"، بل ظل في أعماله التالية مثل "آنگاه پس از تندر" يذكّر بمرارة الانقلاب وانهيار "السقف العالي لأحلامنا النبيلة" و"البستان اليقظ المورق الذي تحوّل صليبا لنا".

غير أنّ نغمة الشعر بعد الانقلاب لم تقتصر على الهزيمة، ففي بعض النصوص برزت نزعة ملحمية تستحضر أبطالاً مجهولين. ومن أبرزها قصيدة أحمد شاملو "وارطان سخن نگفت" (وارطان لم يتكلم)، التي غيّر عنوانها إلى "نازلي سخن نگفت" تهرّباً من مقصّ الرقابة.

كتب شاملو هذه القصيدة في السجن، بعد استشهاد رفيقه الأرمني وارطان سالاخانيان تحت التعذيب. وكان شاملو قد اعتُقل بعد الانقلاب في آب 1953 بموجب المادة الخامسة من الأحكام العرفية، وقضى 14 شهراً في سجن قصر حيث كتب مجموعة من قصائده الشهيرة مثل: "لالايي براي بيداري" (تهويدة للاستيقاظ)، و"شبانه"، و"بارون"، و"مرگ نازلي" (في رثاء وارطان).

قصيدة "وارطان لم يتكلم" تُعدّ ذروة شعر شاملو في تلك الحقبة، فهي نصّ محكم البنية، نابض بالتصوير والتجسيد، يجمع بين التراجيديا والحسّ الملحمي. صحيح أنّ خاتمتها حزينة، لكنها تترك أثراً تأملياً عميقاً، وتُشرك القارئ في ألم الشاعر وهو يشهد ذبح إنسان في أقبية السجون.

يوظف شاملو في القصيدة رموز المرحلة ذاتها، ليرسم صورة مجتمع بلا أمل، حتى في الربيع، رمز الحياة والتجدد:

"وارطان! لقد ابتسم الربيع وتفتّح شجر الأرجوان،

والياسمين العجوز أزهَر تحت النافذة،

كفّ عن الظنّ السيئ!

إن الوجود خير من الفناء، لاسيما في الربيع…"

لكن وارطان لم يتكلم. مضى مرفوع الرأس، كوكباً أضاء لحظة في ظلمة الليل ثم انطفأ، زهرة بنفسج بشّرت بالربيع ورحلت.

وهكذا، بين "زمستان" لأخوان و"وارطان" لشاملو، نجد روايتين شعريتين لمأساة وطنية واحدة: شتاء قاسٍ من الخيبة، ونزيف دم شهيد لم يصرخ، لكن صمته صار صرخة في وجدان الأمة.

/انتهى/

الأكثر قراءة الأخبار ثقافة ، فن ومنوعات
أهم الأخبار ثقافة ، فن ومنوعات
عناوين مختارة