خلفيات التقارب السعودي مع ايران .. المنطقة على مشارف تحول تاريخي
شكّلت الحرب الإسرائيلية الأمريكية الأخيرة ضد إيران نقطة تحول في الفكر السعودي. إذ أدركت الرياض الآن أن إيران قوة عسكرية ناضجة، محصنة ضد التهديدات والإكراه. ولم تعد الضغوط التقليدية فعّالة. ويعتمد أمن السعودية الآن على التعامل المباشر مع إيران، وليس إسرائيل.
وافادت وكالة تسنيم الدولية للانباء ان المواجهة الأخيرة بين إيران وإسرائيل شكلت نقطة تحول مهمة في معادلات القوة الإقليمية، وخاصة في منطقة الخليج الفارسي.
وفي تحليلٍ حول هذا الموضوع، كتبت صحيفة "ذا كرادل" الإلكترونية: "كشف الرد العسكري الإيراني المباشر والمدروس - الذي نفّذه الحرس الثوري الإسلامي - نقاط الضعف الاستراتيجية لتل أبيب، وأجبر عواصم دول الخليج الفارسي، وخاصة الرياض، على إعادة النظر في افتراضاتها الراسخة حول الأمن الإقليمي".
يتلاشى التناقض في موقف الخليج الفارسي تجاه إيران. وقد سرّعت الحرب الأخيرة من اتجاهٍ كان يتشكل منذ سنوات: انهيار النظام المتمركز حول الولايات المتحدة وصعود الإقليمية متعددة الأقطاب. ويرسم الخليج الفارسي الآن مسارًا جديدًا، مستقلًا عن الإملاءات الأمريكية والإسرائيلية. لكن إعادة التنظيم الاستراتيجي بقيادة السعودية لم تحدث من فراغ. فقد دفعت سنوات من الفشل السياسي والعسكري والدبلوماسي تحت رعاية الولايات المتحدة وإسرائيل دول الخليج الفارسي إلى السعي إلى ترتيبات أمنية أكثر موثوقية وأقل تصادمية. ما نشهده الآن هو التفكك التدريجي للتحالفات البالية وفتح قنوات براغماتية قائمة على المصالح مع طهران.
استراتيجية الحرب الإيرانية تعيد تشكيل تطلعات دول الخليج الفارسي
أظهرت إدارة طهران للصراع العسكري الأخير - بالاعتماد على الضربات الدقيقة والتحالفات الإقليمية والتصعيد المتحكم فيه - مستوى جديدًا من الردع. سيطرت إيران بحرص على الصراع من خلال الاستفادة من شبكاتها الإقليمية وقواعدها الصاروخية وطائراتها المسيرة المتطورة. بطريقة لم تتضمن حربًا شاملة، لكنها في الوقت نفسه أرسلت رسائل واضحة للعدو حول قدرته على ردع الصراع وتصعيده إذا لزم الأمر.
كانت الرسالة الموجهة إلى دول الخليج الفارسي واضحة: إيران ليست معزولة ولا ضعيفة. لديها القدرة على التأثير على جبهات متعددة دون الوقوع في هاوية حرب شاملة.
وصرح دبلوماسي عربي مطلع لصحيفة "ذا كرادل": "كانت هذه الحرب نقطة تحول في الفكر السعودي. تدرك الرياض الآن أن إيران قوة عسكرية ناضجة، محصنة ضد التهديدات والإكراه. لم تعد الضغوط التقليدية مجدية. يعتمد أمن السعودية الآن على التعامل المباشر مع إيران، وليس إسرائيل، وبالتأكيد ليس على تراجع المظلة الأمنية الأمريكية.
استياء سعودي من إسرائيل
يكمن جوهر الاستياء السعودي في عدوان إسرائيل المتزايد على الفلسطينيين وتجاهلها التام لمبادرات السلام العربية - بما في ذلك مبادرة السلام العربية لعام 2002 التي قادتها الرياض. وقد أثار تعنت رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وخاصة فيما يتعلق بتوسيع المستوطنات اليهودية في القدس والضفة الغربية المحتلة، قلق السعوديين.
هذه الاستفزازات لا تقوض الجهود الدبلوماسية فحسب، بل تتحدى أيضًا شرعية المملكة العربية السعودية، مما يجبرها على إعادة النظر في جدوى إسرائيل كشريك استراتيجي. ويقول الدبلوماسي نفسه: "لقد أجبر هذا الجمود السياسي في إسرائيل المملكة العربية السعودية على إعادة النظر في حساباتها الإقليمية، وقدم إيران على أنها... قوة إقليمية لا غنى عنها.
الرياض تتجه نحو طهران
تتبنى المملكة العربية السعودية، خلف الأبواب المغلقة، استراتيجية تُسمى "الاحتواء الإيجابي" مع إيران، في تحول واضح عن حقبة الحروب بالوكالة والعداء الأيديولوجي. لم تعد الرياض تسعى إلى المواجهة، بل إلى التنسيق، لا سيما في مجالي الأمن الإقليمي والطاقة.
وصرحت مصادر دبلوماسية لصحيفة "ذا كرادل" أن إعادة فتح السفارات وزيادة التنسيق الأمني ليسا مجرد نتيجة وساطة صينية، بل يعكسان اعتقادًا سعوديًا أعمق: أن التطبيع مع إسرائيل لا يقدم أي فوائد أمنية حقيقية، خاصة بعد كشف نقاط ضعف تل أبيب في الحرب الأخيرة.
ويعكس المسار الجديد للمملكة العربية السعودية أيضًا رغبة متزايدة في إيجاد حلول إقليمية مستقلة عن واشنطن، وهي رؤية تنتشر أيضًا بين دول الخليج الفارسي الأخرى.
في غضون ذلك، تُحوّل الجمهورية الإسلامية الإيرانية قوتها العسكرية بسرعة إلى رصيد سياسي. فإلى جانب عروضها الصاروخية والطائرات المسيرة، أصبحت طهران الآن تسعى إيران جاهدةً إلى التعاون الاقتصادي والتكامل الإقليمي وبناء منظومة أمنية محلية وإقليمية مع دول الخليج الفارسي.
وأفادت مصادر مطلعة لصحيفة "ذا كرادل" أن إيران تسعى إلى شراكة شاملة مع المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر وسلطنة عمان. ويشمل هذا التعاون شراكات اقتصادية وتنسيقًا في القضايا الإقليمية الرئيسية .
ويتماشى موقف طهران مع رؤيتها الراسخة: أمن الخليج الفارسي يجب أن تحدده الدول المطلة عليه وشعوب المنطقة، وليس أجندات القوى الأجنبية.
تحالف جديد يتشكل
لم تعد هذه القصة مقتصرة على المملكة العربية السعودية. فالإمارات العربية المتحدة تُوسّع تعاونها الاقتصادي مع طهران وتُبقي قنواتها الأمنية مفتوحة. وتُحافظ قطر على خط دبلوماسي قوي مع إيران، وتُوظّف مصداقيتها للتوسط في المحادثات الإقليمية. وتُعدّ عُمان جسرًا موثوقًا به ووسيطًا حذرًا في المنطقة.
وصرّح دبلوماسي عربي مُطّلع على التطورات لصحيفة "ذا كرادل" بأن الاجتماعات المُستقبلية بين إيران ودول الخليج الفارسي ستُركّز على قضايا مثل الشحن في مضيق هرمز، وتنسيق الطاقة، وقضايا إقليمية أوسع. ويبرز الآن إجماع على أن التفاهم المُتبادل مع إيران سيمهد الطريق لمرحلة أكثر استقرارًا في الخليج الفارسي.
في خضمّ هذه التغييرات، تجد إسرائيل نفسها على هامش المنطقة، بعد فشل مشروع تشكيل محور مُناهض لإيران. أما اتفاقيات إبراهيم التي توسطت فيها الولايات المتحدة، والتي كانت تُعتبر في السابق انتصارًا استراتيجيًا، فلم تُقابل إلا بردود فعل فاترة في الخليج الفارسي، حتى أن الدول العربية المُوقّعة عليها تراجعت.
تُبدي النخب السياسية السعودية تشككًا علنيًا في جدوى تطبيع العلاقات مع إسرائيل. ومع استمرار حرب إسرائيل على غزة، ازداد الضغط الشعبي في دول الخليج، وأصبح القادة السعوديون أكثر حذرًا.
الموقف السعودي واضح، وإن لم يكن مُعلنًا: لم تعد تل أبيب قادرة على ضمان الأمن، ولا ينبغي اعتبارها ضامنة لاستقرار المنطقة.
البراغماتية تتغلب على الأيديولوجية
المصالحة الإيرانية السعودية ليست أيديولوجية، بل هي نتاج واقعية متشددة. ويقول دبلوماسي عربي رفيع المستوى لصحيفة "ذا كرادل": "لقد تخلّت الرياض عن الأوهام. الحوار مع جيرانها، لا التحالف مع واشنطن وتل أبيب، هو السبيل لحماية المصالح السعودية. لم تعد الولاءات القديمة على المحك، لكن الحقائق على المحك. أصبحت إيران الآن ركنًا أساسيًا في معادلة أمن الخليج الفارسي.
اليوم، لا ترى السعودية طهران تهديدًا يجب احتوائه، بل قوة يجب التعامل معها. تُشكّل أطر الأمن الإقليمي من الداخل.
يتلاشى التناقض الخليجي تجاه إيران. لقد سرّعت الحرب الأخيرة اتجاهًا تراكم لسنوات: انهيار النظام المتمركز حول الولايات المتحدة وصعود الإقليمية متعددة الأقطاب. يرسم الخليج الفارسي الآن مسارًا جديدًا، مستقلًا عن الإملاءات الأمريكية والإسرائيلية.
اليوم، لا ترى السعودية طهران تهديدًا يجب احتوائه، بل قوة يجب التعامل معها. تُشكّل أطر الأمن الإقليمي من الداخل. في غضون ذلك، تُكافح إسرائيل للحفاظ على دورها، على الرغم من كثرة الحديث عن شرق أوسط يتمحور حول تل أبيب وحلفائها العرب.
إذا مع استمرار هذه التوجهات، نحن على أعتاب مرحلة انتقالية تاريخية، مرحلة قد تسمح للخليج الفارسي أخيرًا بتحديد أمنه وسيادته بناءً على مصالحه الذاتية.
هذا ليس مستقبلًا مثاليًا، ولكنه تطور استراتيجي بعد عقود من التبعية، وتتجه السعودية نحو إيران ليس بدافع المصلحة، بل بدافع المنطق.
/انتهى/