دهخدا ومعجمه: بحث حول إبداع تحفة بجهود فردية

دهخدا ومعجمه: بحث حول إبداع تحفة بجهود فردیة

اضطرَّ دهخدا، من أجل استكمال تأليف معجمه، إلى بيع منزله 13 مرة، تارة بكامله، وتارة بنصفه أو ربعه، عبر عقود بيع مشروطة للبنوك وأفراد مختلفين.

وأفادت وكالة تسنيم الدولية للأنباء بأن سماء الأدب الفارسي قد أضاءتها نجوم ساطعة، رسمت الدرب للأجيال القادمة. ومن بين هذه النجوم المتألقة، يبرز اسم علي أكبر دهخدا، الأديب والمعجمي والكاتب والشاعر والصحفي والسياسي الإيراني. فقد أشعل مصباحًا في درب اللغة الفارسية، وخلّف للأجيال كنزًا ثمينًا بجهوده الدؤوبة التي لم تعرف الكلل.

وُلد دهخدا عام 1258 هـ.ش (1879 م) في طهران، ونمت في روحه منذ الطفولة جذوة العشق للعلم والتعمق في الكلمات. وبعد استكمال دراسته الأولية، التحق بالمدرسة السياسية، حيث تعرّف على العلوم الحديثة وتعلّم اللغات الأجنبية. غير أن شغفه العميق كان منذ البدء منصبًا على اللغة الفارسية. فكان هذا العشق، إلى جانب إحباطاته من الأوضاع السياسية والاجتماعية في عصره، دافعًا له لخوض غمار تأليف المعجم، ليضع بذلك حجر الأساس لإنجاز لغوي ظل حتى يومنا هذا مصدر إلهام لعشاق الفارسية.

تأليف معجم دهخدا: رحلة ستة عقود من التفاني

لم يكن تأليف معجم دهخدا، الذي انطلق في أواخر القرن الثالث عشر الهجري الشمسي واكتمل عام 1359 هـ.ش (1980 م)، مهمة سهلة على الإطلاق. فالصبر على مشاقه ومحنه لم يكن ليصدر إلا عن قلب نابض بحب إيران. فهذا المعجم هو إرث لرجل كرّس حياته للغته ووطنه، واستطاع، بمساندة الأساتذة محمد معين، جعفر شهيدي، محمد دبيرسياقي، وكوكبة من الباحثين، أن يُتمَّ هذا العمل الجليل خلال ستين عامًا من الجهد المتواصل. ورغم مرور ما يقرب من نصف قرن على اكتماله، لا يزال هذا المعجم يُعدّ أعظم مرجع للغة الفارسية.

على مدار السنوات، حاول العديد من الباحثين تسليط الضوء على هذا الإرث الثمين، ومن بين هذه المحاولات يأتي كتاب "دهخدا والمعجم" بقلم مريم ميرشمسي، الذي صدر حديثًا عن دار نشر "قطره". يتناول الكتاب في ثلاثة فصول رئيسية: حياة دهخدا، المعجم، والتعريف بمؤلفي هذا العمل الموسوعي.

وفي مقدمة الكتاب، تسرد المؤلفة كيف نشأت فكرة تأليفه قائلة: "يوم السبت، السادس عشر من تير 1397 هـ.ش (يوليو 2018)، وخلال إحدى جلسات تأليف المعجم الفارسي الكبير، حضر الدكتور محمدرضا شفيعي كدكني اجتماع مؤلفي مؤسسة معجم دهخدا. وأثناء النقاشات، شدّد على ضرورة التعريف بمؤلفي هذا العمل ومساعدي دهخدا، وأصرَّ على أهمية هذا الأمر. كنتُ حينها واحدة من بين الحضور، وفجأة وجدتُ نفسي محطَّ اهتمام الأستاذ، وقبل أن أستوعب الأمر، كان قد أوكل إليَّ هذه المهمة. وبإصراره قال: ’هذا العمل لا يليق إلا بكِ!‘ شعرتُ بالامتنان والثقل في آنٍ واحد، فقبلتُ المهمة على استحياء، غير مدركة حجمها الحقيقي... وهكذا وُضع حجر الأساس لهذا الكتاب."

رحلة البحث والتوثيق: تحديات تأليف الكتاب

لم تكن كتابة هذا الكتاب مهمة يسيرة على المؤلفة. فقد بذلت مريم ميرشمسي جهدًا كبيرًا في جمع ودراسة وثائق متعددة تتعلق بحياة دهخدا، مستعينة بمصادر متنوعة مثل مكتبة مجلس الشورى، الأرشيف الوطني الإيراني، المكتبة الوطنية، ومجموعة دهخدا. كان فحص هذه الوثائق، التي تضمنت مستندات ورسائل، عاملًا حاسمًا في تمكينها من تقديم سرد موثوق ودقيق عن حياة دهخدا، وهو سرد يسلط الضوء على تفاصيل مسيرته ويقدم سيرة ذاتية موثّقة دون أي نقصان أو تحريف.

وفي جزء آخر من الكتاب، تناولت المؤلفة "تصنيف مداخل معجم دهخدا وفقًا لمؤلفيها"، وهو قسم جاء ثمرة بحث امتد لأشهر عدة. كما يظهر تفانيها وجهدها المتواصل في الأقسام الأخرى من الكتاب، ولا سيما في توثيق السير الذاتية لـ 53 مؤلفًا و64 مساعدًا، رغم الصعوبات الكبيرة التي واجهتها، بما في ذلك ندرة المعلومات الإدارية عن بعض هؤلاء العلماء.

ثمار الجهد: استقبال واسع وصعوبات لا تنتهي

حظي كتاب "دهخدا والمعجم" بترحيب كبير من أساتذة اللغة الفارسية، وهو ما يعكس أهمية الجهد الذي بذلته مريم ميرشمسي، التي أمضت سنوات عديدة في هيئة تأليف معجم دهخدا. وفي حديثها مع وكالة تسنيم، أكدت أن "حب إيران وعشق اللغة الفارسية" هما أعظم الدروس التي استلهمتها من حياة العلّامة دهخدا. كما أشارت إلى المعاناة التي تكبّدها هذا الرجل العظيم في سبيل إنجاز معجمه، قائلة: "بدأ دهخدا وحيدًا، وبلا أي دعم مادي، في تدوين ملاحظاته من النصوص المختلفة. وفي مرحلة ما، قدّمت له وزارة المعارف (وزارة الثقافة) مساعدات مالية وأرسلت له مساعدين، لكن الدعم انقطع وتوقف العمل. ولمواصلة مشروع المعجم وتأمين نفقات معيشته، اضطر دهخدا خلال الفترة بين عامي 1315 و1324 هـ.ش (1936-1945 م) إلى بيع منزله 13 مرة، تارة بكامله، وتارة بنصفه أو ربعه، من خلال عقود بيع مشروطة للبنوك وأفراد مختلفين، ليحصل على المال ثم يعيده في موعد الاستحقاق."

وتابعت قائلة: "في عام 1324 هـ.ش (1945 م)، وبفضل جهود بعض أصدقائه في مجلس الشورى الوطني، وعلى رأسهم محمد مصدق، عبدالله معظمي، وعبدالحميد أعظم زنغنه، تم إقرار مادة قانونية لدعم طباعة المعجم. ومنذ ذلك الحين، تسارعت وتيرة التأليف والطباعة، لكن الميزانية لم تكن دائمة، وكثيرًا ما توقفت المخصصات المالية. وبعد انقلاب 28 مرداد 1332 هـ.ش (1953 م)، عاش دهخدا سنوات عصيبة حتى وفاته، كما واجه خلفاؤه في المشروع، الدكتور محمد معين والدكتور سيد جعفر شهيدي، تحديات مالية كبيرة."

مشروع وطني لحماية اللغة الفارسية

كان معجم دهخدا ثمرة جهد مشترك شارك فيه كُتّاب من مختلف أنحاء إيران، مما جعله مشروعًا وطنيًا بامتياز، هدفه الحفاظ على الثقافة واللغة الفارسية. وفي هذا السياق، قالت ميرشمسي: "بعد عودة دهخدا من جهارمحال وبختياري عام 1296 هـ.ش (1917 م)، بدأ تدريجيًا بالابتعاد عن السياسة، وكرّس نفسه لجمع المواد اللازمة لإعداد كتابيه "أمثال وحكم" والمعجم. فقد أدرك بوضوح الضعف الثقافي الذي تعاني منه بلاده، ومن هنا انطلق في مشروعه الضخم، ليُعدّ اللغة الفارسية لمواكبة قافلة العلوم والتقنيات الغربية."

وقالت في سياق حديثها: "لقد أدرك دهخدا أن إيران بحاجة إلى ترجمة الكتب الأجنبية وإدخال مصطلحات جديدة من أجل تحقيق التقدم العلمي، وأن اللغة الفارسية، لكي تبقى ولا تندثر وتتمكن من أداء هذه المهمة، تحتاج إلى معجم شامل وكامل يجمع مفرداتها في مكان واحد ليكون متاحًا لأهل اللغة. وكان زملاؤه يحملون نفس الفكرة والهدف، وهو الارتقاء باللغة الفارسية وضمان استمراريتها، جنبًا إلى جنب مع الحفاظ على الثقافة الإيرانية".

وخلال نصف قرن تقريبًا منذ اكتمال "لغت‌نامه دهخدا" وحتى يومنا هذا، صدرت معاجم وقواميس فارسية متعددة، من بينها "فرهنگ سخن" و"فرهنگ جامع زبان فارسي" وغيرها من الأعمال المشابهة. ومع ذلك، لا يزال "لغت‌نامه دهخدا" يُعتبر أعظم مرجع في اللغة الفارسية. وفي معرض تفسيرها لهذا الأمر، قالت ميرشمسي: "للإجابة على هذا السؤال، دعونا نلقي نظرة على القواميس الفارسية التي أُلفت بعد "لغت‌نامه". يمكن تصنيفها إلى فئتين: الفئة الأولى تشمل القواميس التي اكتملت من الألف إلى الياء، مثل "فرهنگ فارسي معين" و"فرهنگ بزرگ سخن" (وهناك أيضًا قواميس أصغر مثل "فرهنگ عميد" وأخرى ألفها غلامحسين صدري أفشار ونسرين ونسترن حكمي، لكنها لا تضاهي شمولية القاموسين السابقين). أما الفئة الثانية، فتضم القواميس غير المكتملة، مثل "لغت‌نامه بزرگ فارسي" الذي بدأ تأليفه في مؤسسة لغت‌نامه دهخدا بعد نشر لغت‌نامه دهخدا، تحت إشراف الدكتور دبير‌سياقي والدكتور شهيدي ومجموعة من المؤلفين، لكنه لم يتعدَّ تأليف ونشر حروف "آ" و"ألف" وجزء من حرف "ب"، ثم توقف منذ عامين أو ثلاثة بسبب تغييرات إدارية في المؤسسة. وكذلك "فرهنگ جامع زبان فارسي"، الذي يجري تأليفه من قبل مجموعة من الباحثين تحت إشراف الدكتور علي‌ أشرف صادقي في أكاديمية اللغة والأدب الفارسي، حيث نُشرت منه حتى الآن ثلاثة مجلدات تمتد من "آ" إلى منتصف حرف "ألف".

وأضافت: "بالنسبة للقواميس غير المكتملة، فمن الواضح أنه لا يمكنها، رغم منهجيتها وشموليتها، أن تحل محل "لغت‌نامه دهخدا" لعدم اكتمالها. أما القواميس المكتملة، فإن "فرهنگ معين" يفتقر إلى الشواهد، حيث إن معظم مداخله تخلو من الأمثلة. في المقابل، يحتوي "فرهنگ سخن" على شواهد مأخوذة من النصوص القديمة والمعاصرة، ما يجعله مفيدًا للعديد من المستخدمين، لكنه لا يغني الباحثين عن الرجوع إلى "لغت‌نامه دهخدا" عند دراستهم للنصوص".

وأوضحت ميرشمسي أن "لغت‌نامه دهخدا هو المرجع الأساسي لمحققي النصوص"، مضيفًا: "لقد قلت مرارًا وسأكرر، إن جميع النصوص المصححة منذ ستينيات القرن الماضي وحتى اليوم تدين بالكثير إلى "لغت‌نامه دهخدا". فهو ليس مجرد معجم، بل يمكن اعتباره قاموسًا موسوعيًا. ومن هذه الناحية، يمكن مقارنته جزئيًا فقط بـ"فرهنگ فارسي معين"، الذي يتألف من أربعة مجلدات مخصصة للغة ومجلدين للأعلام. ومع ذلك، هناك اختلافات جوهرية بينهما. يتميز "لغت‌نامه دهخدا" بتقديم شواهد متعددة لكل كلمة أو تركيب، كما يوفر معاني القواميس السابقة، ويعرض المترادفات والمقابلات العربية للمفردات الفارسية. إضافة إلى ذلك، يحتوي على العديد من الكلمات العربية التي لم يجد مؤلفوه لها شواهد في النصوص المتاحة، لكنها دُوّنت لتسهيل الأمر على القارئ الفارسي، حيث تُشرح معانيها بالاستناد إلى المعاجم العربية والفارسية، ما يغني المستخدم عن الرجوع إلى القواميس العربية".

وأشارت الباحثة إلى أن "لغت‌نامه دهخدا كان ولا يزال بمثابة السلم الذي صعدت عليه القواميس اللاحقة"، مؤكدًا: "لقد شاركت، وما زلت أشارك، في تأليف عدة معاجم، ولم يُكتب أي مدخل فيها دون الرجوع إلى "لغت‌نامه دهخدا" والاستفادة منه".

يُذكر أن كتاب "دهخدا ولغت‌نامه" (دهخدا ومعجمه) ليس مجرد سيرة ذاتية أو سرد لحكاية تأليف كتاب في خضم الأحداث الزمنية، بل هو انعكاس لجزء من تاريخ الإيرانيين وساهم في تشكيل ذاكرتهم التاريخية. وقد صدر هذا الكتاب عن دار نشر "قطره" في 726 صفحة، مع غلاف من تصميم هادي حيدري، بسعر مليونين و600 ألف تومان، وهو متاح الآن لعشاق اللغة والأدب.

/انتهى/

الأكثر قراءة الأخبار ثقافة ، فن ومنوعات
أهم الأخبار ثقافة ، فن ومنوعات
عناوين مختارة