"ترامب" بين غزة وجنوب لبنان: استثمار على أنقاض دماء الشهداء ومقاومة الشعب
يتعامل ترامب مع الجنوب اللبناني وكأنه أرض مشاع، يقرّر متى وكيف يضع عليها توقيعه، تمامًا كما يضع علامته التجارية على أبراجه الفندقية أو ملاعب الغولف التي يمتلكها...
تسنيم/ امل شبيب
يعيش لبنان هذه الأيام على وقع تصعيد سياسي وإعلامي غريب في توقيته ومضمونه. فمن جهة يطلّ الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب بتصريحات عن "رفييرا الشرق الأوسط"، ومن جهة أخرى يُسرّب مقترحات عن إقامة "منطقة اقتصادية" تحمل اسمه في جنوب لبنان! هكذا، بكل بساطة، يتعامل ترامب مع الجنوب اللبناني وكأنه أرض مشاع، يقرّر متى وكيف يضع عليها توقيعه، تمامًا كما يضع علامته التجارية على أبراجه الفندقية أو ملاعب الغولف التي يمتلكها.
مشاريع استثمار أم أوراق ابتزاز سياسي؟
لكن خلف هذه العناوين البرّاقة تختبئ حقيقة أوضح: ترامب لا يقدّم نفسه كمستثمر بريء يبحث عن التنمية، بل كسياسي يتدخل بشكل مباشر وغير مباشر في الشأن اللبناني، رابطًا أي مشروع اقتصادي بشروط سياسية مسبقة، أهمها نزع سلاح المقاومة، أي أنّه يحاول أن يرسم مستقبل لبنان بيده، ويحوّل اقتصاده إلى رهينة قرار أميركي- إسرائيلي مشترك.
لكن المفارقة أنّ ترامب، الذي يدّعي أنه يريد "إعمار المنطقة"، هو نفسه الداعم الأبرز لنتنياهو في عدوانه على غزة، يغطي جرائم الاحتلال هناك، ويعطيه الغطاء السياسي الكامل للإستمرار في قتل المدنيين والإبادة الجماعية وتدمير البيوت والبنى التحتية ومنع المساعدات. ثم، في مشهد موازٍ، يطلّ ليعرض على لبنان مشاريع تنموية مشروطة، وكأنّ الجنوب يحتاج إلى "توقيع ترامب" كي يحيا.
اختلال سياسي وأخلاقي
إنّ هذا المشهد لا يمكن قراءته إلا من زاوية الاختلال الفاضح في عقلية ترامب السياسية. ففي حين يصفّق للدمار في غزة، يروّج لأحلام سياحية واقتصادية في جنوب لبنان، وفي حين يبيع أوهام "السلام الاقتصادي"، يعمل في الواقع على تكريس الهيمنة الإسرائيلية عبر الضغط على الحكومة اللبنانية للتخلي عن السلاح الوحيد الذي يحمي البلد من الأطماع والاعتداءات.
أي "اقتصاد" هذا الذي يُبنى على شرط إلغاء حقّ لبنان في الدفاع عن نفسه؟ وأي "استثمار" هذا الذي يُراد له أن يأتي على أنقاض السيادة الوطنية؟ إنّ محاولة ترامب تسويق نفسه كـ"رجل مشاريع" في لبنان ليست سوى أداة ابتزاز جديدة: إمّا أن يتخلى لبنان عن مقاومته، وإمّا أن يُحرم من الاستثمارات والوعود المليارية. وهنا يصبح المشروع الاقتصادي مجرد ورقة مساومة، هدفها السياسي أوضح من أن يُخفى: فتح الطريق أمام صديقته وحليفته "إسرائيل" للتمدد أكثر فأكثر داخل الجنوب. ولعلّ ما يغفله ترامب أو يتجاهله هو أنّ القرى الحدودية مع فلسطين المحتلة ليست أرضًا فارغة ولا منتجعًا سياحيًا بإنتظار الاستثمار.
الجنوب ليس أرضاً سائبة
هذه القرى لها أهلها وسكانها وتاريخها، وهم الذين صمدوا في وجه الاحتلال ودافعوا عن بيوتهم وأرضهم بدمائهم. هؤلاء الناس لن يتخلوا عن أرضهم مهما كانت المغريات، ولن يبيعوا قراهم في سوق العقارات السياسية. فالجنوب ليس مشروعًا عقاريًا جديدًا بإسم ترامب، بل هو أرض حيّة بناسها وذاكرتها ومقاومتها، و الجنوب أرض الشهداء لا أرض مشاريع عابرة...
أخطر ما في طروحات ترامب أنها تتجاهل التاريخ والذاكرة الحية للجنوب اللبناني، هذه الأرض لم تكن يومًا فراغًا ينتظر الاستثمار، بل كانت ولا تزال ساحة مواجهة وصمود.
بين الاقتصاد والمقاومة
منذ ما قبل العام 1980، قدّم الجنوب قوافل من الشهداء الذين دافعوا عن لبنان في وجه الاحتلال والإرهاب، وما زال حتى اليوم يدفع الثمن دمًا ووجعًا كي يبقى الوطن حرًا مستقلًا. إنّ سكان القرى الحدودية وكل الشعب المقاوم، لا يمكن أن يسمحوا بقيام أي "منطقة اقتصادية" أو "حدودية" على حساب دماء أبنائهم. الجنوب شرب دم الشهداء الذين ارتقوا في الخيام وبنت جبيل ومارون الراس وعيناثا وعيترون وصور والنبطية والقرى الأمامية، وهو لن يتحول إلى لوحة تجارية يوقعها ترامب أو غيره، وأي تحرك يقوم به ترامب أو نتنياهو في لبنان لا يُقرأ إلا في سياق مشروع تغيير هوية وتاريخ وثقافة لبنان.
إذاً، المسألة أبعد من اقتصاد أو استثمار، إنها محاولة لإعادة رسم لبنان على المقاس الأميركي – الإسرائيلي، عبر سلخ الجنوب عن دوره المقاوم وتحويله إلى "منطقة منزوعة الروح".
هذا المشروع مرفوض بالكامل، لأنه يهدد جوهر الكيان اللبناني، ويمسّ بذاكرته الجماعية وهويته الوطنية والثقافية. هذه الأرض لا تُقاس بقيمة الدولار، بل بقيمة الكرامة التي حمت لبنان بأكمله. ولذلك، فإنّ أي محاولة لفرض مشاريع أميركية ـ إسرائيلية على الجنوب ستصطدم أولًا وأخيرًا بإرادة الناس التي لا تلين، وبمقاومة مستمرة صنعت الانتصارات وفرضت معادلات ردع يعرفها العدو جيدًا.
جنوب لبنان ليس توقيعاً على ورق
لبنان اليوم أمام اختبار وطني كبير: أن يرفض تحويل أرضه إلى منتجع لأحلام ترامب، أو إلى ورقة دعائية في سباق الانتخابات الأميركية، أو إلى ساحة لتصفية الحسابات بين واشنطن وتل أبيب من جهة، ومحور المقاومة من جهة أخرى. فالمطلوب ليس "رفييرا" ولا "منطقة اقتصادية" تحمل اسم رئيس أميركي سابق؛ المطلوب هو تثبيت السيادة الوطنية، وحماية الأرض والغاز والحدود من الأطماع الإسرائيلية المستمرة، وإذا كان ترامب يحلم بأن يضع اسمه على خريطة الجنوب، فإنّ الواقع على الأرض يقول شيئًا آخر: الجنوب محفور عليه اسم المقاومة، بدماء الشهداء وتضحيات الناس، لا بتواقيع المستثمرين العابرين تمحوها أول عاصفة، الجنوب كتبت وستكتب دومًا بيد اللبنانيين أنفسهم.
/ إنتهى/